كان الطبيب فهمي الميدنة يظن أن مسيرته الطبية ستتكون تدريجيًا، بين قاعات المحاضرات وأيام التدريب المعتادة، قبل أن تُقحمه الحرب مبكرًا إلى قسم الطوارئ، ليجد نفسه مسؤولاً عن أرواح عشرات المصابين في مستشفى يعمل بنصف قدرته.
إلى جانب تطوعه في المستشفى، ورغم النزوح المتكرر ومساعدة عائلته في الماء والمأوى، خصص فهمي ثلاثة أيام أسبوعيًا وجزءًا من ليالي الحرب المريرة لدراسته الجامعية، لينجح في الاحتفاظ بموقعه ضمن العشرة الأوائل في دفعته
كان شهر آذار/ مارس 2024، عندما بدأ جيش الاحتلال حصاره الثاني لمستشفى الشفاء في مدينة غزة، "حينها شعرت بأنني أصبحت طبيبًا بحق" يقول فهمي، مبينًا أنه كان قد انتقل إلى مستشفى المعمداني، الذي كان، آنذاك، يقتصر على غرف العمليات دون قسم طوارئ. ومع خروج مستشفى الشفاء عن الخدمة ومحاصرة الطواقم الطبية بداخله، قررت إدارة المعمداني إعادة فتح الطوارئ، ليكون فهمي الطبيب الوحيد هناك ومعه خمسة ممرضين فقط.
ويعود فهمي بذاكرته إلى ليلة مجزرة الكويت في 24 آذار/ مارس 2024، حين استقبل قسم الطوارئ 120 مصابًا دفعة واحدة، ليجد نفسه أمام مسؤوليات تفوق طاقة طالب في سنته الخامسة. يقول: "كنت أقيّم الحالات وحدي، أنسّق التحويلات، وأرسل الحالات الجراحية إلى كمال عدوان والاندونيسي، كما نقلت خمس حالات مباشرة للعمليات في المعمداني نفسه، وكانت هذه الليلة نقطة التحوّل".

لكن قصة فهمي مع الميدان لم تبدأ في تلك اللحظة. فقد بدأ التطوع في المستشفيات خلال سنته الجامعية الرابعة. ومنذ اليوم الأول لحرب الإبادة الإسرائيلية، التحق بالكوادر الطبية، وعاش حصار الشفاء الأول من الداخل، وعندما خرج الطاقم الطبي من الحصار نزح معظمهم جنوبًا، لكنه اختار البقاء في شمال القطاع ومواصلة المناوبة وسط دمار شبه كامل للمستشفيات.
في تلك الفترة لم يكن يعمل في المنطقة سوى المستشفى المعمداني وطبيبان فقط، ثم أصبح هو ثالثهم. وكانوا يتعاملون يوميًا أكثر من 500 إصابة وسط نقص فادح في الإمدادات والكوادر.
وإلى جانب تطوعه في المستشفى، ورغم النزوح المتكرر ومساعدة عائلته في الماء والمأوى، خصص فهمي ثلاثة أيام أسبوعيًا وجزءًا من ليالي الحرب المريرة لدراسته الجامعية، لينجح في الاحتفاظ بموقعه ضمن العشرة الأوائل في دفعته.
وواجه قطاع غزة نقصًا شديدًا في الكوادر الطبية خلال حرب الإبادة، فمن جهة استهدف جيش الاحتلال هذه الكوادر بالقتل والاعتقال، ومن جهة أخرى كان حجم الشهداء والجرحى أكبر من أن يستوعبه القطاع المحاصر.
وبحسب أحدث المعطيات الرسمية، فقد أسفرت حرب الإبادة عن استشهاد 134 طبيبًا، أربعة منهم استشهدوا داخل سجون الاحتلال، في حين بلغ عدد الأسرى من القطاع الصحي في سجون الاحتلال 115، فضلاً عن 276 طبيبًا ما زالوا في سجون الاحتلال.
هذه الظروف دفعت كثيرين من طلاب الطب إلى التطوع في المستشفيات لمحاولة تغطية النقص القائم. واحدٌ من هؤلاء، عبد الكريم سمور، الذي دخل العناية المركزة متطوعًا بينما كانت غرفها مكتظة بالإصابات وشبه فارغة من الكوادر الطبية. يقول: "لم يكن القرار بطوليًا بقدر ما كان استجابة غريزية لحاجة لا يمكن الهروب منها. فالنقص كان هائلًا، والمسؤولية أكبر من أن نتجاهلها".
يوضح سمور أنه لم يتعلم في قاعات المحاضرات ما تعلمه في أيام الحرب، حيث القرارات تُتخذ تحت ضوء الهاتف، والوقت حاسمٌ في إنقاذ الأرواح التي تنتظر تدخّلًا عاجلًا. ويشير إلى الأطباء الذين احتضنوا الطلاب كامتداد لفريقهم، لا كمتدربين، ورأوا فيهم احتياط المستقبل الذي اضطر للاستعجال.

ولشهور ظل سمور يتنقل بين أسرة المرضى وخيام النزوح، ويعيش محملاً بالمهام اليومية المرهقة: جلب الماء، تأمين الطعام، جمع الحطب، ثم الهرولة إلى المستشفى أو متابعة الدراسة في ظروف بالكاد تصلح للحياة. يصف تلك المرحلة بأنها "صراع يومي بين واجبين، كلاهما أثقل من الآخر".
ولا ينسى سمور مجزرة النصيرات في 8 حزيران/ يونيو 2024، حيث كان يخضع لتدريب سريري داخل مستشفى شهداء الأقصى عندما هزّ المكان قصفٌ جنوني، وانهالت التهديدات على أقسام المستشفى، ودخل المرضى في حالة تيه تامة. يصف سمور تلك اللحظة بأنها من "المشاهد التي تترسّب عميقًا في الوعي، وتبقى هناك، كأنها لا تزال تقع الآن".
ورغم كل ذلك، لا يتحدث سمّور بلسان المنكسر، بل يصف التجربة بأنها "صنعت منه طبيبًا آخر، أكثر نضجًا وصلابة، وأكثر فهمًا للطب بوصفه عملًا أخلاقيًا قبل أن يكون مهارة".
لا يتحدث سمّور بلسان المنكسر، بل يصف التجربة بأنها "صنعت منه طبيبًا آخر، أكثر نضجًا وصلابة، وأكثر فهمًا للطب بوصفه عملًا أخلاقيًا قبل أن يكون مهارة"
وعاش الأطباء في قطاع غزة عامين استثنائيين لم يكن الطب فيهما شبيهًا بأي مكان آخر، وفق شهادات أطباء كبار من داخل القطاع ومتطوعين من خارجه، حيث العدد الهائل من الشهداء والمصابين، وانقطاع الكهرباء، وتوقف عمل أجهزة التصوير الطبي، والنقص الهائل في الأدوات الطبية والمخدر، والاستهداف المباشر للمستشفيات بالقصف والاقتحام والحصار.
يلخص عدنان سكيك المشهد بقوله: "منذ الساعات الأولى للحرب بدا واضحًا أن الكارثة تتجاوز القدرات الطبية. فالمستشفيات تستهدف بشكل مباشر، وممراتها التي كانت يومًا لتنقل المرضى أصبحت ساحة طوارئ مفتوحة، والأدوات المعقمة استُبدلت بوسائل بدائية، بينما تحوّلت دقائق العمل إلى سباق مع الموت".

ومع تزايد المصابين، انزلق سكيك وزملاءه إلى واقع لم يتدرب عليه أحد، حيث العمليات تُجرى تحت ضوء الهواتف المحمولة، والجرحى يُسعفون على الأرض لغياب الأسرة، وإجراءات حرجة تُنفذ باستخدام أدوات متواضعة. يقول: "كنا نتخذ قرارات تُحدد الحياة أو الموت خلال ثوانٍ"، مشيرًا إلى موقف اضطر فيه لإدخال أنبوب صدري لمصاب بوضع بالغ الخطورة، لكن اعتمادًا على خبرات الأطباء الأكبر منه.
يختزل سكيك تجربته بقوله إنها "تجربة وجودية أعادت تعريف شجاعة المهنة ومعنى المسؤولية الإنسانية"
أما الحدث الذي بقي معلقًا في ذاكرته فهو وصول طفلة في الخامسة، مبتورة القدم، واضطر الأطباء لبتر قدمها الأخرى، لكن الأصعب، وفق سكيك، أن الطفلة ناجية وحيدة بعدما استشُهد جميع أفراد عائلتها. يؤكد: "إصابات الأطفال كانت الأصعب. كنا نشاهد المستقبل وهو يُنتزع من أيديهم بسبب الاستهداف المباشر للمدنيين".
ويختزل سكيك تجربته بقوله إنها "تجربة وجودية أعادت تعريف شجاعة المهنة ومعنى المسؤولية الإنسانية. ففي كل يوم، كان عليه وزملاؤه مواجهة العجز قبل الألم، والوقت قبل النزف، ليثبتوا أن الطب في غزة لم يعد مهنة فقط. بل معركة حياة أمام آلة حرب لا ترحم".