بيسان

أزمة غاز تتجدّد في غزة: سوق سوداء تتضخم وشبكة تحكّم خفية

المصدر
أزمة غاز تتجدّد في غزة: سوق سوداء تتضخم وشبكة تحكّم خفية
محمد نشبت

محمد نشبت

كاتب صحفي من فلسطين

على امتداد عامين من الحرب والحصار، لم يكن غياب غاز الطهي تفصيلًا ثانويًا في حياة سكان غزة. فحين أُغلقت المعابر وتوقفت صهاريج الغاز، وأُنهِك المخزون القليل المتبقّي، عاد الناس إلى طرق بدائية للطهي، أي الحطب الذي يلتقطونه من بقايا الركام، والخشب من الأبواب المحطَّمة، والكراتين والأحذية والبلاستيك. كانت النار تشتعل في ساحات الخيام وبين البيوت المتضررة كأن الزمن قد ارتدَّ عشرات السنين إلى الوراء، بينما يشقّ الدخان الأسود طريقه نحو السماء شاهدًا على عجز كل الحلول.

يحتاج قطاع غزة في الظروف الطبيعية إلى ما بين 400 و500 طنٍّ من الغاز يوميًا لتلبية احتياجات السكان والمخابز والمطاعم والقطاعات الصحية. لكن ما يدخل فعليًا منذ الهدنة لا يتجاوز 120 إلى 150 طنًا في أفضل الأيام

ومع انتهاء العمليات العسكرية وبدء هدنة طويلة، كان يُفترض أن تعود الحياة تدريجيًا إلى مسارها، لكن أزمة غاز الطهي كشفت أن الحرب لم تنته فعليًا. فعلى الرغم من دخول الشاحنات عبر معبر كرم أبو سالم الإسرائيلي، بقيت كميات الغاز شحيحة وغير مستقرة، وبدأت تتكشف طبقات جديدة من التعقيد: تحكّم سياسي في المعابر، تلاعب في الحصص اليومية، وسوق سوداء صاعدة لا يضبطها أحد.

وفق مكتب الإعلام الحكومي، يحتاج قطاع غزة في الظروف الطبيعية إلى ما بين 400 و500 طنٍّ من الغاز يوميًا لتلبية احتياجات السكان والمخابز والمطاعم والقطاعات الصحية. لكن ما يدخل فعليًا منذ الهدنة لا يتجاوز 120 إلى 150 طنًا في أفضل الأيام، وهو ما يعني أن القطاع لا يحصل على ثُلث حاجته، ما يفتح فجوة هائلة تُستغل في خلق نقص يتغذى عليه السوق السوداء.

وفي الأسابيع الأولى بعد وقف إطلاق النار، كان الطلب أكبر من أي وقت مضى. فقد عاد عشرات الآلاف إلى منازل متضررة تحتاج إلى الغاز في كل شيء: تنظيف الركام، تسخين الماء، تجهيز الطعام. ومع زيادة الطلب وندرة الكمية، تمدّدت السوق السوداء؛ حيث تجاوز سعر أسطوانة الغاز الواحدة ألفي شيكل في ذروة الأزمة الحالية، مقارنة بسعرها الرسمي البالغ 70 شيكلًا للأسطوانة كاملة. ومع تفاقم الفجوة، بدأت خيارات الناس تضيق، وحرارة الطوابير تعكس حجم العجز اليومي.

اقرأ/ي: خاص | الترا فلسطين يحصل على نصّ وثيقة الخطوات التنفيذية لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة

العائلات بين نار الحطب وسوق سوداء تتمدد

في خيمة قرب مدرسة تابعة للأونروا في دير البلح، تحوّل البحث عن غاز الطهي إلى جزء من يوم إيلياء أبو زيادة، النازحة من حي الشجاعية. تقول إن حياتهم منذ رمضان الماضي تقوم على إحراق الكرتون والبلاستيك لتجهيز الطعام: "لما دخل الغاز أول يناير بعد وقف إطلاق النار قلنا الوضع رح يتحسن، بس اكتشفنا أنه اختفى من السوق مع أول أيام الإغلاق بشهر مارس. دفعنا 900 شيكل مقابل أسطوانة 6 كيلو حتى نقدر نمشي شهرنا الفضيل، وبعدها رجعنا للحطب والنار والبلاستيك زيّنا زي غيرنا، ومع الهدنة الحالية الغاز بيدخل بس ما أجى دورنا ومش عارفين متى راح يجي".

ومن تل الهوى، تروي لنا لينا الطويل تجربة مشابهة، مؤكدة أن مشهد محطات التوزيع تغيّر بالكامل: "المحطات اللي كنا نعرفها زمان كانت تبيع بالسعر الرسمي أيام الهدنة. اليوم ما في غير أربع أو خمس محطات بس بتوزّع. الباقي بيروح لموزعين محددين، وإحنا بنعرف إنه جزء كبير بيروح على السوق السوداء. صرنا ندفع 100 شيكل مقابل الكيلو".

أما نائل تايه من دير البلح، فيتحدث عن رحلة بحث طويلة لم تُفضِ لأي تعبئة: "لفّيت خمس محطات خلال يومين وما لقيت. المحطات بتقول ما وصل، بس إحنا شايفين شاحنات داخلة وطالعة. والموزعين اللي تم فرزهم بيحكوا إن حصصهم قليلة، 80 أو 100 اسم لكل كشف. حتى التطبيق اللي كنا نعتمد عليه لمعرفة الدور صار فيه خلل، وصار يعطي ناس تعبئ وهي مش دورها. اللي كان عليه الدور قبل مارس الماضي راح عليه. في ناس ماسكة السوق، وبدهم الغاز يظل ناقص عشان السعر يظل عالي".

ومن مخيم الشاطئ، يصف محمد أبو رضوان تحول الغاز من مادة أساسية إلى عبء يُحسب له ألف حساب: "قبل الأزمة كنا نحط الأكل على الغاز ثلاث مرات في اليوم. اليوم المرة الواحدة بنفكّر فيها. قبل شهرين دفعت 150 شيكل للكيلو، لأنه ما كان في بديل. الحطب مش دايمًا موجود، والدخان بيمرض الأولاد".

موزّعون يكشفون مسارًا موازيًا للغاز

هذه الشهادات، رغم اختلاف أصحابها ومناطقهم، تلتقي في نقطة واحدة: أزمة الغاز لم تكن وليدة الحرب وحدها، بل وليدة منظومة من التحكّم توزّعت على أطراف متعددة، بعضها ظاهر وبعضها يتجنّب الظهور. ومع توسّع الحديث الشعبي عن الاحتكار، بدأت شهادات من داخل منظومة التوزيع نفسها تخرج إلى العلن.

إذ يؤكد الموزّع م.ع لـ"الترا فلسطين"، أن الأزمة ليست فقط بسبب شح الكميات، بل بسبب "من يقرّر لمن تصل هذه الكميات". يقول: "المورد الرئيسي إلي بتحكّم في كمية الغاز اللي بيوزعها علينا. مرات يعطيني حمولة نص شاحنة، ومرات يعطيني شاحنة كاملة. بس الأخطر إنه جزء من هاي الشاحنات بروح مباشرة على السوق السوداء. الكيلو هناك يُباع بـ100 شيكل حاليًا لأنه في غاز بيدخل ولو شحيح وكل ما قل دخول الغاز ارتفع سعر الكيلو، وهذا بخنق السوق وبيزيد على الناس".

وهنا تتسع الحلقة حين تتقاطع مع شهادة صاحب نقطة تعبئة س،ر, الذي رفض الكشف عن كيفية وصول الغاز إليه أو أسماء الأطراف التي تمده بالكميات بشكل مستمر منذ شهرين. لكنه يقول بوضوح: "أنا ببيع الكيلو بـ120 شيكل عن طريق التطبيق. الحكومة ما بتحكم السوق، وفي ناس متنفذين في الشركة وشركاء مش ظاهرين". وبرغم امتناعه عن ذكر الأسماء، إلا أن حديثه عن "الشركاء المتنفذين" يشير إلى شبكة موازية تتحكّم في مسار الغاز منذ دخوله القطاع حتى وصوله للمستهلك.

ويتعمّق المشهد أكثر عندما يتحدّث إ.خ، وهو عنصر أمن عمل على تأمين شاحنات الغاز، قائلًا: "إحنا بنأمّن الشاحنات من المعبر للمحطات. مرات بناخذ حصتنا، أسطوانة أو أسطوانتين. كل وحدة 12 كيلو. اللي بده يبيعها بالسوق السوداء بيبيع بسهولة. اليوم الأسطوانة بتعطي 1400 شيكل، وقبل شهرين كانت تعطي 4000 شيكل". وتكشف شهادته أن التلاعب لا يقتصر على التجار وحدهم، بل يمتد أحيانًا إلى حلقات يفترض أن تكون رقابية.

قراءة اقتصادية: أزمة مركّبة بثلاثة محاور

من جانبه، يرى المحلل الاقتصادي أحمد أبو قمر أن الأزمة الحالية "هي نتيجة تداخل ثلاثة عوامل: شح الكميات بفعل السيطرة الإسرائيلية على المعابر، وغياب إدارة فعّالة لعملية التوزيع داخل غزة، ووجود شبكات موازية تستفيد من الفجوة بين العرض والطلب". ويضيف: "حين يكون الطلب أعلى بثلاث مرات من المعروض، فمن الطبيعي أن تنهض سوق سوداء. المشكلة أن هذه السوق تحوّلت إلى بنية ثابتة وليست حالة مؤقتة، لأنها تحقق أرباحًا مضاعفة للأطراف المتورطة فيها".

ويحذّر أبو قمر من أن استمرار الوضع الحالي سيقود إلى "تحوّل الغاز إلى سلعة طبقية"، مشيرًا إلى أن أسعار السوق السوداء "تستنزف الأسر الفقيرة وتخلق اقتصاد ظلًّا موازياً يعمّق التفاوت الاجتماعي".

في المقابل، تؤكد وزارة الاقتصاد أنها تبذل جهودًا لتوزيع الكميات بعدالة، وأنها تتابع الشكاوى عبر فرق ميدانية، إلا أن الواقع يشير إلى محدودية قدرة هذه الإجراءات على وقف تمدد السوق السوداء، خاصة في ظل الفجوة الكبيرة بين الحاجة اليومية والكميات المتوفرة فعليًا، ووجود سلسلة توريد معقدة من المعبر حتى نقاط البيع.

اليوم، وبعد أشهر من دخول الهدنة حيّز التنفيذ، ما زال الدخان المتصاعد من خشب بقايا المنازل المحطَّمة في غزة يقول إن الأزمة أبعد من مجرد نقص في الكميات. إنها أزمة إدارة، وأزمة رقابة، وأزمة شبكة توزيع تتيح للتلاعب أن يتمدد من المعبر إلى الشوارع. وبينما يقف السكان على قارعة الانتظار لأيام طويلة لأجل أسطوانة قد لا تأتي، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن لقطاع أنهكته الحرب أن يستعيد أبسط مقومات حياته قبل أن تُحسم معركة الغاز بين السوق السوداء والاحتياجات اليومية؟