"أثرياء الفوضى"، طبقة جديدة وجدتهم الحرب في الهامش ودفعت بهم إلى القمّة من خلال احتكار المساعدات والمتاجرة بالسلع النادرة داخل السوق السوداء، أطاحت بطبقة اجتماعية كاملة كانت تعتمد على التعليم والوظائف المهنية، حيث خسر الأكاديميون والموظفون والتجار التقليديون مصادر رزقهم، بينما استطاع آخرون أن يبنوا ثرواتهم على أنقاض اقتصاد ممزق وغياب تام للرقابة.
ففي غزة، لم تعد الحرب مجرد دمار للمنازل والبنى التحتية؛ لقد أعادت صياغة المجتمع من جذوره، وغيّرت شكل الاقتصاد وطبقات الدخل وموازين القوة بين الناس.
وليس التغيير اقتصاديًا فحسب؛ بل هو تحوّل اجتماعي ونفسي عميق، إذ تركت هذه الفوضى شعورًا بالظلم والاختلال وعدم اليقين لدى فئات واسعة من المجتمع، وخلقت بيئة معقدة تستوجب فهمًا دقيقًا لهذه التحولات، وما تعنيه لمستقبل غزة بعد الحرب. نحاول في هذا التقرير تفكيك الصورة: كيف وُلدت طبقات جديدة من قلب الدمار؟ كيف انهارت أخرى؟ وما الذي يعنيه هذا للغزيين في حاضرهم ومستقبلهم؟
العلاقات داخل الأسر أيضًا شهدت توترًا متصاعدًا نتيجة الانهيار المالي، إذ ينعكس الضغط على الآباء والأمهات في شكل خلافات دائمة وشعور بالعجز، بينما يتأثر الأطفال بالخوف من المستقبل وتراجع إحساسهم بالأمان الاجتماعي.
د. محمد القاضي، محاضر وأكاديمي في إحدى جامعات غزة، كان يعيش قبل الحرب حياة هادئة ومستقرة، بعيدة عن القهر والخذلان. لكن الحرب قلبت حياته رأسًا على عقب، وجعلت من كل يوم تحديًا جديدًا، كما حدث مع كثير من أهالي غزة. ضعف الرواتب وشح الموارد المالية ضربا حياته المعيشية والنفسية، وجعلته يشعر بالعجز أمام واقع لم يعتده.
يقول القاضي، لموقع "الترا فلسطين": "عشت أيامًا لم أتخيلها حتى في أسوأ كوابيسي. لم أتخيل يومًا أن يُهان المتعلم ويعلو البلطجي، كما شهدنا في غزة خلال الحرب".
والتقت "الترا فلسطين" المهندس شادي أبو زنادة، الذي كان يعمل في شركة مقاولات ويعيش حياة كريمة ومستقرة، فوجد نفسه بعد الحرب في مواجهة واقع جديد قاسٍ. الشركة التي عمل بها دُمّرت كما دُمّرت غزة بأكملها، ولم يعد قادرًا على تلبية احتياجات أسرته كما كان يفعل سابقًا. الأثر الاقتصادي للحرب امتد ليطال استقرار العائلة النفسي والاجتماعي، لكنه يظل متشبثًا بالأمل والعدل: "هذه الحرب رفعت أقوامًا جمعوا أموالهم على أكتاف أهل غزة، لكنني أؤمن أن مال الحرب للحرب، وما جُمِع من قوت الشعب بالقوة والاحتكار لن يدوم".
بينما وجد المدرس مصطفى العالول (50 عامًا)، نفسه أمام واقع جديد فرضته الحرب. كان قبلها يذهب إلى عمله بهندامه المرتب، يعلّم الأجيال القيم والأخلاق والسلوكيات السليمة. اليوم، يبيع على عربته الفول السوداني ليؤمن لقمة عيش أولاده ويلبّي احتياجاتهم، رغم القهر الذي أصابه. ومع ذلك، يؤكد بثقة: "صحيح أنني خسرت كثيرًا في هذه الحرب، لكنني حافظت على مبادئي وقيمي، ولم أدخل المال الحرام إلى جيبي في هذه الحرب الطاحنة. وأنا على يقين أن عدالة الله ستعيد لنا ما خسرناه".
وبعيدًا عن الأسماء، هناك فئة من الناس كانت لا تمتلك شيئًا قبل الحرب، لكنها أثناء الحرب وبعدها أصبحت من أصحاب رؤوس الأموال. كثيرًا ما صادفنا على مواقع التواصل قصصًا عن أطفال أو مراهقين، لا تتجاوز أعمارهم السادسة عشرة، يبيعون ويشترون أغلى الهواتف النقالة، أو يتاجرون بمواد ضرورية بأسعار مضاعفة، مستفيدين من احتكار البعض للسلع ورفع الأسعار وقت حاجة الناس.
شرخ نفسيّ
يؤكد د. درداح الشاعر، أستاذ علم النفس، أن التفاوت الاقتصادي الذي فرضته الحرب في غزة تجاوز حدود فقدان الوظائف وتبدّل مصادر الدخل، ليخلق "شرخًا نفسيًا عميقًا" داخل المجتمع. ويشرح، في حديث مع "الترا فلسطين"، أن الفئة المتعلمة تحديدًا وجدت نفسها أمام انهيار كامل لمنظومة العمل التي بنت عليها حياتها لعقود، إذ تحولت المهن التي كانت تُعدّ ركيزة للاستقرار — كالطب والتعليم والهندسة — إلى مجالات شبه معطّلة، فقد أصحابها قيمتها في واقعٍ بات يُقاس بالبقاء والقدرة على الوصول إلى الحدّ الأدنى من الموارد الأساسية. هذا التحول القاسي، كما يشير، ولّد موجة من المشاعر المركّبة: حزن، خذلان، وفقدان عميق للجدوى.
ويشرح الشاعر أن المقارنة اليومية بين من نزحوا وفقدوا كل ما يملكون وبين فئة صغيرة ارتفعت دخولها خلال الحرب تولّد صراعات نفسية صامتة، تتجلى في القلق الحاد، والغضب المكبوت، والشعور باللاعدالة. هذه الحالة، بحسبه، تفتح الباب أمام اضطرابات طويلة المدى مثل الاكتئاب وانخفاض تقدير الذات وتدهور الثقة الاجتماعية. ويضيف أن أخطر ما في الأمر هو أن هذه الطبقة المتعلمة كانت تمثل سابقًا صمام أمان للمجتمع، وأن تآكلها يخلق فراغًا نفسيًا ومعرفيًا يهدد استقرار النسيج الاجتماعي لسنوات.
ويرى د. الشاعر أن مواجهة هذا التدهور تتطلب خططًا متوازية: دعمًا نفسيًا متدرجًا للفئات الأكثر تضررًا، برامج تعافٍ مجتمعي تُعيد للفئة المتعلمة دورها ومكانتها، ومساحات آمنة للتفريغ النفسي تعيد الأفراد إلى حالة التوازن والانخراط الإيجابي. ويؤكد أن إعادة الجوهر النفسي للطبقة الوسطى هو مفتاح إعادة التوازن للمجتمع كله، لأن التعافي النفسي — وليس الاقتصادي وحده — هو الحاجز الأخير قبل الانهيار الشامل.
وتتداخل زوايا النظر بين الأخصائي النفسي والأخصائية الاجتماعية، فاضطراب الفرد لا ينفصل عن بيئته، كما أن ضغوط المجتمع تعكس نفسها مباشرة على الصحة النفسية لمن يعيشون داخله.
بدورها، توضح الأخصائية الاجتماعية نور أبو غنيمة أن الحرب لم تدمّر البيوت فحسب، بل أعادت تشكيل البنية الاجتماعية داخل غزة بصورة عميقة ومؤلمة. وتقول إن الطبقة الوسطى التقليدية، التي كانت تستند إلى التعليم والوظائف المهنية المستقرة، تآكلت بشكل شبه كامل بعد فقدان آلاف المعلمين والأطباء والمهندسين لمصادر دخلهم. وفي المقابل، ظهرت طبقة جديدة تشكلت من "اقتصاد الحرب"، يحقق أصحابها دخلًا مرتفعًا من خلال التجارة في المساعدات، أو بيع المواد النادرة، أو العمل في شبكات إعادة بيع الحديد والركام أو السلع المستوردة بأسعار مضاعفة.
وتشير أبو غنيمة، في لقاء مع "الترا فلسطين"، إلى أن هذا التفاوت لم يعد اقتصاديًا فقط، بل أصبح يهدد النسيج الاجتماعي نفسه؛ فالعائلات المتضررة تنظر بعين الألم والمرارة إلى من يحققون أرباحًا كبيرة في زمن الدمار، ما يخلق فجوة من عدم الثقة وشعورًا متزايدًا بانعدام العدالة. وتقول إن العلاقات داخل الأسر أيضًا شهدت توترًا متصاعدًا نتيجة الانهيار المالي، إذ ينعكس الضغط على الآباء والأمهات في شكل خلافات دائمة وشعور بالعجز، بينما يتأثر الأطفال بالخوف من المستقبل وتراجع إحساسهم بالأمان الاجتماعي.
وترى أن سلوكيات جديدة بدأت بالظهور في غزة بعد عامين من الحرب، بعضها مرتبط بالفقر الشديد، مثل الاعتماد المضطر على شبكات الدعم العائلية، أو اللجوء لأعمال خطرة وغير منظمة. وتشير إلى أن الشباب باتوا أقل إيمانًا بأن التعليم قادر على تغيير مستقبلهم، بعدما رأوا أن مهاراتهم العلمية لم تحمهم من الفقر. وتؤكد أبو غنيمة أن معالجة هذا الشرخ الاجتماعي تتطلب برامج دعم مجتمعي واسعة وخطابًا يعيد ترميم الثقة، لأن المجتمع، كما تقول، "لم يعد يواجه أزمة اقتصاد فقط، بل أزمة قيم وتوازن اجتماعي كامل".
وتوضح الأخصائية أن حماية المجتمع من مزيد من التدهور تبدأ بإعادة تمكين الطبقة المتعلمة التي أنهكتها الحرب، لأنها كانت الأساس في استقرار غزة وخدماتها وتعليمها. وتشدد على ضرورة توفير برامج تأهيل مهني ونفسي تعيد لهذه الفئة دورها وثقتها بذاتها، إلى جانب وضع سياسات تحدّ من اتساع فجوة الدخل التي خلقتها طبقة المستفيدين من اقتصاد الحرب.
انهيار حاد
وفيما تكشف الزاوية المجتمعية أثر الحرب على السلوك اليومي وأنماط التكيّف، تأتي الزاوية الاقتصادية لتُظهر الجذر المادي لهذه التحولات، وكيف يُعيد الفقر والحصار تشكيل تفاصيل الحياة من أساسها، حيث يصف الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر واقع غزة اليوم بأنه "اقتصاد حرب" قائم على قلب كامل لموازين العدالة الاقتصادية؛ إذ لم تعد الخبرة أو التعليم أو الإنتاج معيارًا للدخل كما كان الحال قبل الحرب، بل أصبحت الفوضى والقدرة على النفوذ هي التي تحدد من يربح ومن ينهار.
وبحسب المختص الاقتصادي أ. أبو قمر، فإنه قبل الحرب كان توزيع الثروة يجري بشكل طبيعي: الموظف يتقاضى أجره، والمتعلم يشغل وظيفة مستقرة، والتاجر يربح ضمن دورة اقتصادية واضحة. لكن الحرب أطاحت بكل ذلك، فانهارت الطبقات المتعلمة والتجارية وحتى العائلات الثرية، بينما ظهرت فئات صغيرة حققت أرباحًا هائلة بطرق غير عادلة.
ويحمّل أبو قمر السياسات الإسرائيلية مسؤولية كبرى في هذا التحول، حيث جرى – بشكل ممنهج – خلق حالة فوضى اقتصادية سمحت لجهات محددة بالاستيلاء على المساعدات وإعادة بيعها بأسعار فلكية، واحتكار سلع أساسية وصلت أسعارها إلى مستويات غير مسبوقة، مثل بيع كيلو السكر بـ400–500 شيكل. ومع ضرب المؤسسات الحكومية وتعطيل الرواتب وقصف المنشآت الصناعية والتجارية، أصبح السوق السوداء هو المتحكم الأساسي في الاقتصاد.
ويضرب أبو قمر مثالًا بصعود "أثرياء الحرب" بالقول: "أشخاص كانوا مفلسين قبل الحرب، أصبحوا اليوم من كبار التجار بفضل احتكارهم للبضائع في السوق السوداء، محققين أرباحًا يومية تقدَّر بملايين الشواكل". ويرى أن هذا الانهيار انعكس في أرقام صادمة على المجتمع، في بطالة تتجاوز 83%، وفقر يفوق 90%، وأكثر من 95% من سكان غزة يعتمدون على المساعدات، ما دفع آلاف الأكاديميين والمتعلمين إلى الانخراط في السوق السوداء كوسيلة للبقاء.
ويوضح أبو قمر، لـ"الترا فلسطين"، أن التعافي يبدأ من إنهاء مظاهر السوق السوداء وإعادة ضبط الأسواق، وفتح المعابر وضخ السيولة المالية بانتظام، وتوفير عملة سليمة بديلة عن العملات المهترئة، كذلك إعادة بناء منظومة رقابية قادرة على مساءلة من جمع ثروات غير مشروعة. محذرًا من أن استمرار نفوذ "أثرياء الفوضى" سيحوّلهم إلى أصحاب قرار في المرحلة المقبلة، ما يشكّل تهديدًا طويل الأمد للنسيج الاجتماعي والاقتصادي في غزة.
ورغم الفوضى الاقتصادية والانهيار الذي خلفته الحرب في غزة، يظل الصمود والقيم الإنسانية حاضرين في حياة الغزيين. بعضهم فقد كل شيء، لكنهم تمسكوا بمبادئهم، ورفضوا الانزلاق إلى طرق غير مشروعة لكسب المال. الحقيقة التي تفرضها التجربة هي أن القوة ليست فيما يملكه الإنسان من مال، بل في قدرته على الحفاظ على كرامته وكرامة أسرته وسط أصعب الظروف. غزة، رغم الدمار، تظل رمزًا للأمل، حيث يمكن للبقاء بالقيم والصدق أن يكون أعظم من أي مكسب مادي مؤقت.