بحثًا عن مأوى يحميهم من البرد وقسوة حياة الخيام والتشرُّد، يلجأ فلسطينيون إلى منازلهم المدمَّرة، محاولين ترميم ما يمكن ترميمه منها والعيش داخلها رغم أنها آيلة للسقوط. ورغم خطورتها، يختار كثيرون العودة إليها بعد أن ذاقوا قسوة الحياة في الخيام وظروفها غير الآدمية التي دفعتهم للمغامرة بحياتهم بحثًا عن حدٍّ أدنى من الاستقرار.
يقول السكان إنهم يفرّون من حياة الخيام القاسية إلى واقعٍ أشدّ خطرًا وصعوبة، حيث يجدون أنفسهم يعيشون في منازل مهدمة أقرب إلى الخراب منها إلى المأوى، في مفارقة تزيد من معاناتهم اليومية وثقل ظروفهم.
تجوّل "الترا فلسطين" في شوارع مدينة غزة، ورصد عددًا كبيرًا من المنازل الآيلة للسقوط التي لجأ أصحابها إلى ترميمها على أمل أن توفّر لهم مأوى يغنيهم عن حياة الخيام
مجازر انهيار المنازل
ومنذ نهاية الحرب، سُجِّلت العديد من حوادث انهيار المنازل المدمَّرة التي عاد أصحابها للسكن فيها رغم خطورتها، بعد أن حاولوا ترميم ما أمكن ترميمه منها. لكن هذه البيوت الهشّة لم تصمد، فانهارت فوق ساكنيها، ما أدى إلى استشهاد العديد من الغزيين بينهم أطفال.
وُسجِّل انهيار منازل على رؤوس ساكنيها في أحياء التفاح وتل الهوا والصبرة وشمال القطاع منذ بدء سريان وقف إطلاق النار. وتُعدُّ ظروف الحياة داخل المنازل الآيلة للسقوط بالغة الصعوبة، بل إنها في كثير من الأحيان أقسى من العيش في الخيام وأكثر خطورة.

فهذه البيوت، إلى جانب احتمال انهيارها في أي لحظة، أصبحت عرضة لتسرُّب المياه إلى داخلها مع أول سقوط للأمطار، ما يزيد معاناة ساكنيها. كما يعاني السكان من صعوبة التنقّل داخلها بسبب الدمار والتصدعات.
تجوّل "الترا فلسطين" في شوارع مدينة غزة، ورصد عددًا كبيرًا من المنازل الآيلة للسقوط التي لجأ أصحابها إلى ترميمها على أمل أن توفّر لهم مأوى يغنيهم عن حياة الخيام. غير أنّ شهادات السكان الذين عادوا للعيش داخل هذه البيوت كشفت حجم المعاناة اليومية والمخاطر الكبيرة التي يواجهونها بين الجدران المتهالكة وتحت الأسقف المتصدعة.

ترميم المنازل
ومن جانبه، قال المواطن مصطفى الربعي إنه، وبعد عودته من النزوح جنوب القطاع، وجد منزله مدمَّرًا بشكل شبه كامل، ولم يتبقَّ منه سوى غرفتان وجزء من صالة المنزل، وظنّ أنه من الممكن تهيئتهما للسكن المؤقت بدل البقاء في الخيام. وأوضح أنه بدأ بالفعل، بمساعدة إخوته، ترميم الجزء الأقل تضررًا من المنزل أملاً في إيجاد مكان يمكن العيش فيه ولو بشكل محدود.
وقال في حديثه لـ"الترا فلسطين" إنهم واجهوا صعوبة كبيرة في ترميم الغرفتين، فاضطرّوا إلى تركيب ألواح من الزينغو (الصفيح) وتغطيتها بالقماش، إضافة إلى تنظيف الأرضية من الركام والشظايا. كما اعتمدوا بابًا آخر وألغوا وجود النوافذ، وقاموا بعزل الغرفتين عن باقي أجزاء المنزل المدمَّر بجدار مصنوع من ألواح الزينغو. وأشار إلى أنهم اعتقدوا أن هذا الحل سيكون آمنًا لعائلتهم، لكنهم اكتشفوا مدى خطورة الحياة في هذا الوضع.

وأضاف أن الخطر بدأ يتكشف سريعًا حين وضعوا برميل المياه للاستخدام اليومي في الطابق العلوي، وبعد تعبئته حتى نصفه فقط فوجئوا بحدوث انهيار داخل المبنى. فقد شكَّل وزن البرميل ضغطًا كبيرًا على السقف المتضرر والآيل للسقوط، ما أدى لانهيار جزء منه.
وأكد أنه لحسن الحظ لم يُصب أحد، لكن الحادثة كانت كفيلة بإقناعهم بأن البقاء داخل تلك الغرف يشكّل خطرًا كبيرًا على حياتهم. وعلى إثر ذلك، اضطرّوا للعودة إلى حياة الخيام، ونَصَبوا خيمة أخرى أمام ركام منزلهم كحلٍّ أكثر أمانًا رغم قسوته.
ومن جانبه، قال محمد أبو حسين إنه عاد مع عائلته إلى منزلهم رغم الدمار الكبير الذي لحق به، وقاموا ببعض الإصلاحات والترميم ليستقرّوا فيه مؤقتًا. لكنه أشار إلى أنهم صُدموا مع بداية المنخفض الجوي حين اكتشفوا أن سقف المنزل لا يمنع دخول مياه الأمطار، حيث إن المياه اخترقت الجدران بسهولة، ما أدى إلى غرق المنزل، حيث انهالت المياه على عائلته ما أدى إلى مرض أطفاله.
وأضاف في حديثه لـ"الترا فلسطين" أن المخاطر لا تقتصر على غرق المنزل المدمر فقط، بل تشمل سقوط أجزاء من الحجارة منذ بداية سكنهم فيه. "سقَطت علينا حجارة من السقف والجدران عدة مرات ونحن نيام، وكانت خطيرة للغاية علينا".

تساقط الحجارة
وأوضح أن هذه مشكلة شائعة جدًا في المنازل التي يعاد سكنها رغم كونها آيلة للسقوط، حيث تسقط أحيانًا قطع كبيرة من دون أي سبب واضح أو حركة حولها، ما يعرض الأطفال والبالغين لإصابات خطيرة.
وشدّد على أن من أهم الاحتياطات في الحياة داخل منزل آيل للسقوط ضرورة التحرك ببطء وحذر شديد، وعدم تعليق أي شيء على الجدران. وأوضح أن أي نشاط يحتاج لاستخدام قوّة بدنية يجب أن يُنفَّذ خارج المنزل، خوفًا من أن تتسبّب الحركة في انهيار أجزاء منه.

وأضاف أنهم أصبحوا عاجزين عن استخدام المطرقة لتثبيت المسامير أو تركيب ستائر داخل المنزل، مشيرًا إلى أن كل فعل داخل هذه البيوت يمثل خطرًا بالغ الحساسية على حياتهم.
وعن سبب اختياره العودة إلى منزله رغم خطورته، قال محمد إن حياة الخيام صعبة للغاية؛ فهي تفتقر للخصوصية، وفي الليل تكون شديدة البرودة، ومع قليل من الشمس تتحول إلى حارة جدًا. وأضاف أن التواجد المكثف قرب خيام أخرى يولّد خلافات ومشكلات، مما يجعل الوضع غير مريح على الإطلاق. لذلك، لم يجد بديلًا سوى المجازفة والعودة إلى المنزل المهدّم، رغم المعاناة الأكبر التي يواجهها، خاصة مع حلول فصل الشتاء.

أما زياد أبو منيف، فكانت معاناته مختلفة بعض الشيء، إذ لم يُدمَّر منزله بالكامل أثناء اجتياح حي الزيتون، لكن الاحتلال استهدف عدة أعمدة رئيسية من أساسات المنزل، ما أدى إلى ميلان واضح في بنية المنزل. ومع ذلك، قرر هو وعائلته العودة إلى المنزل.
وقال زياد في حديثه لـ"الترا فلسطين" إن جزءًا من المنزل لم يتعرَّض لضرر كبير، إلا أن المعضلة الأكبر تكمن في ميلان المنزل، ما يصعّب الحركة داخله ويجعل من الصعب تثبيت أي شيء داخل الغرف. وأشار إلى أن هذا الوضع يزيد من تعقيد الحياة اليومية ويجعل أي نشاط داخل المنزل خطيرًا.

وأضاف زياد أن الميلان يجعل حتى أبسط الأمور اليومية صعبة للغاية، متخيّلًا أنه لا يستطيع وضع قنينة ماء أمامه دون أن تسقط وينسكب ما فيها. وأوضح أنهم يضطرّون للبحث عن حلول بديلة، مثل وضع القنينة بين حجرين لتثبيتها، موضحًا أن نجاح هذه الطريقة مع أمر بسيط كهذا لا يعني بالضرورة نجاحها مع أمور أخرى.
ولم تقتصر المخاطر على صعوبة تثبيت الأشياء داخل المنزل فقط، بل أشار زياد إلى أنه تلقّى تحذيرات من مهندسين في البلدية بعدم الإقامة فيه، لأن المنزل قد ينهار بالكامل جهة الميلان. وأوضح أن هذا الوضع يضع العائلة في خطر دائم، خاصة وأن العديد من المنازل الأخرى انهارت بالفعل بنفس الطريقة.
وأشار زياد أيضًا إلى أن من أبرز الصعوبات في العيش بالمنزل المائل هو اختيار مكان مناسب للفراش وأماكن الإقامة داخل الغرف، وتخفيف الحركة. وأضاف أن هذا الواقع يجعل الحياة داخل المنزل معقّدة للغاية وخطيرة دائمًا، ويضاعف من قلق العائلة. وأضاف أن السير على درج المنزل يشكّل خطورة كبيرة، حيث إن الدرج متضرّر بشكل كبير، وبعض أجزائه لم يبق فيها سوى الحديد.
وأوضح أنهم يصعدون إلى المنزل بحذر وخوف، مؤكّدًا أن هذا يشكّل إحدى المخاطر اليومية التي يواجهونها داخل المنزل المائل والمهدّم.