بيسان

دُمى مفخخة "هدية" إسرائيل لأطفال غزة في الهدنة.. شهداء وبتر وتشوهات

المصدر
دُمى مفخخة "هدية" إسرائيل لأطفال غزة في الهدنة.. شهداء وبتر وتشوهات
أروى عاشور

أروى عاشور

صحفية من غزة

كان عدي نور (10 أعوام) يجمع الحطب مع أبناء عمومته شرق خان يونس، عندما رأى عبوة بيضاء اللون بين الأخشاب والحجارة، فحاول التقاطها ظنًّا منه أنها لعبة، غير أنها انفجرت لتُسبب له بترًا في يده اليمنى، وإصابات بالغة في قدمه ووجهه، ما زال بحاجة إلى علاج منها وعمليات تجميلية. 

المستشفيات في غزة استقبلت أطفالًا بإصابات مروعة، شملت أجسادًا ممزقة، وأطرافًا مبتورة، ووجوهًا فقدت ملامحها نتيجة فضول الطفولة تجاه هذه الألعاب المفخخة

تقول إيناس نور (35 عامًا)، والدة عدي، إنها كافحت طوال حرب الإبادة لحماية طفلها، ومنعته من الابتعاد عن البيت خوفًا من أي مفاجأة، ولم تكن تتوقع مطلقًا أن ذهابه إلى جمع الحطب بعد وقف إطلاق النار سيوقع المحظور الذي خافت منه عامين كاملين.

المأساة ذاتها حلت بالتوأم يحيى ونبيلة الشرباصي (6 أعوام)، بينما كانا يستعدان للذهاب إلى البقالة لشراء بعض الحاجيات بمصروفهما الشخصي، حيث التقطا جسمًا يشبه لعبة أطفال، فانفجر في وجهيهما.

يقول محمد الشرباصي، والد التوأم يحيى ونبيلة، إنه خرج بسرعة إلى بوابة المنزل فوجدهما ينزفان، وفي البداية اعتقد أن الانفجار كان نتيجة هجوم من طائرة حربية، قبل أن يكتشف أن الانفجار ناتج عن مخلفات الاحتلال قبل انسحابه.

أدى الانفجار إلى بتر اليد اليمنى ليحيى وتهتك في ساقه، فيما أصيبت نبيلة بشظايا في أنحاء جسدها وبُترت أصابعها واستُئصلت أجزاء من أمعائها. وخضع التوأم لسلسلة عمليات جراحية، وبينما يرقد يحيى في قسم الجراحة بمجمع الشفاء، تتلقى نبيلة العلاج في قسم العناية المكثفة بمستشفى أصدقاء المريض.

التوأم يحيى ونبيلة
ما زال التوأم يحيى ونبيلة في المستشفى إثر إصابتهما في لعبة مفخخة

وإن كان الأطفال عدي ويحيى ونبيلة نجوا من الموت بإصابات بالغة، فإن أطفالاً آخرين استُشهدوا بسبب ألعاب مفخخة وذخائر تركها الاحتلال خلفه.

ألعاب مفخخة… حقيقة مروعة

ويؤكد المدير العام لوزارة الصحة في غزة، منير البرش، أن جيش الاحتلال الإسرائيلي ترك ألعابًا مفخخة لتغري الأطفال، وحين يقبلون على اللعب بها تنفجر في وجوههم، مبينًا أن هذه الألعاب تكون على أشكال دمى، أو "دبدوب"، أو حتى علب وصناديق، تبدو للطفل مألوفة ومغرية، لكنه يصطدم بالانفجار المفاجئ.

وأوضح البرش، في حديث لـ"الترا فلسطين"، أن المستشفيات في غزة استقبلت أطفالًا بإصابات مروعة، شملت أجسادًا ممزقة، وأطرافًا مبتورة، ووجوهًا فقدت ملامحها نتيجة فضول الطفولة تجاه هذه الألعاب المفخخة.

وتشير تقديرات أممية إلى أن تطهير قطاع غزة من الذخائر غير المنفجرة، التي خلّفتها الحرب الإسرائيلية، قد يستغرق ما بين 20 و30 عامًا، ما يجعل القطاع أشبه بـ"حقل ألغام مفتوح" يهدد حياة المدنيين، وعلى وجه الخصوص الأطفال.

الألعاب تكون على أشكال دمى، أو "دبدوب"، أو حتى علب وصناديق، تبدو للطفل مألوفة ومغرية، لكنه يصطدم بالانفجار المفاجئ

من جانبه، قال المتحدث باسم الدفاع المدني محمود بصل، إن قطاع غزة يختزن اليوم "كمية هائلة ومخيفة" من مخلفات الحرب غير المنفجرة، مشيرًا إلى أن طواقم الجهاز رصدت خلال الأسابيع الأخيرة إصابات عديدة بين الأطفال بسبب تماس مباشر مع هذه المخلفات، بعضها أدى إلى حالات وفاة نتيجة العبث بأجسام لم يدرك الأهالي أو الأطفال خطورتها.

ويكشف أن أكثر المناطق خطورة هي مدينة غزة ومناطق شمال قطاع غزة، حيث كانت العمليات العسكرية الأعنف على مدار عامين، مبينًا أن بعض الاستهدافات كانت تتم بصاروخين، أحدهما ينفجر والآخر يبقى خاملاً داخل المبنى أو في محيطه.

ويصف بصل المشهد لـ"الترا فلسطين" بأنه "أكبر من قدرة أي مواطن على استيعابه"، مؤكدًا أن المخلفات ليست مجرد قذائف ملقاة في الشوارع، بل متفجرات كامنة داخل الأحياء، وقد تؤدي أي حركة خاطئة مثل حفر شارع أو تشغيل جرافة إلى انفجار يقتل من في محيطه.

وقال: "هذه المواد خطورتها عالية جدًا، وتشكّل تهديدًا لكل من يتحرك في القطاع، سواء المدنيين، أو الأطفال، أو طواقم الخدمات".

ويدعو بصل الأهالي وأطفالهم إلى الامتناع عن لمس أي جسم مجهول مهما بدا عاديًا، مؤكدًا أن البيئة الحالية في غزة خطِرة ومعقدة، وأي خطأ قد يكون ثمنه حياة طفل.

وأضاف أن الظروف المعيشية الصعبة من غياب البيوت وانتشار الركام وانعدام البدائل تجعل حماية الأطفال مهمة شبه مستحيلة، ما لم تتم عملية منظمة لإزالة المخلفات.

وقدّر مكتب الإعلام الحكومي في غزة وجود 70 مليون طن من الركام والأنقاض في أنحاء القطاع، إلى جانب 20 ألف جسم لم ينفجر جراء الحرب الإسرائيلية على غزة، مؤكدًا أن هذه الأجسام "تتطلب معالجة هندسية وأمنية دقيقة قبل بدء أي أعمال إزالة"، وفق بيان نُشر في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2025.

الأثر النفسي… جروح لا تُرى

وبحسب الأخصائية النفسية صابرين الشاعر، يمرّ الطفل الذي يتعرض لانفجار مفاجئ بحالة تُعرف بـ"الصدمة الحادة"، وهي لحظة من الذهول والانفصال عن الواقع، يشعر خلالها وكأنه داخل كابوس لا يستطيع الاستيقاظ منه. وتقول: "هذا الارتباك الأولي يتحوّل لاحقًا إلى خوف شديد وفقدان للسيطرة على المشاعر".

وتوضح الشاعر، في حديث لـ "الترا فلسطين"، أن فقدان أحد الأطراف أو تشوّه الجسد في هذه المرحلة العمرية يضرب مباشرة في صميم صورة الطفل الذاتية التي يبدأ بتكوينها، إذ قد يشعر الطفل بالنقص والخجل، ويتجنب النظر إلى نفسه أو الاختلاط بالآخرين خوفًا من التنمر أو من الأسئلة المحرجة.

وتختلف استجابة الأطفال عن البالغين، فبينما يملك الكبار القدرة على التعبير بالكلمات، يعبّر الطفل عن الصدمة عبر سلوكيات غير اعتيادية، مثل الصمت والانطواء ونوبات الهلع والتبول اللاإرادي، وحتى العنف المفاجئ.

وتحذر الشاعر من أن هذه التجارب قد تُكوّن لدى الطفل ذاكرة صادمة تلازمه لسنوات، وتظهر في شكل كوابيس، خوف من الأصوات المرتفعة، تجنب اللعب أو الخروج، وقد تتطور إلى اضطرابات نفسية مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، واضطرابات القلق، ومشكلات في التركيز أو التعلم. بل قد تنعكس على شخصيته لاحقًا، فتأخذ الطفولة منحى انسحابيًا أو عدوانيًا نتيجة ما مرّ به من عنف مباغت.

 يمرّ الطفل الذي يتعرض لانفجار مفاجئ بحالة تُعرف بـ"الصدمة الحادة"، وهي لحظة من الذهول والانفصال عن الواقع، يعبر عنها الطفل بسلوكيات غير اعتيادية، مثل الصمت والانطواء ونوبات الهلع والتبول اللاإرادي، وحتى العنف المفاجئ

ولا تقف دائرة الألم عند الطفل وحده، إذ تمتد الصدمة إلى الأهل الذين يعيشون مزيجًا من مشاعر العجز والذنب والغضب والخوف على مصير أبنائهم، وفقًا للشاعر، التي تشدد على أن أولى خطوات العلاج تبدأ بتوفير بيئة آمنة وهادئة، والسماح للطفل بالتعبير عن مشاعره من خلال الرسم أو اللعب، دون إجباره على الحديث عن الحادث في بداياته.

وترى الشاعر أنه بالنظر إلى محدودية الموارد داخل غزة، فإن الحد الأدنى من الدعم النفسي ما يزال ممكنًا عبر المبادرات المجتمعية، وجلسات الدعم الفردي والجماعي، والتدريب النفسي للأهالي حول كيفية التعامل مع أطفالهم في مثل هذه الظروف.

ورغم تكرار هذه الكوارث، لا توجد إحصائية رسمية لعدد الأطفال الذين قضوا أو أُصيبوا بسبب مخلفات الحرب، إذ تُدرج هذه الحالات ضمن الحصيلة العامة لشهداء الحرب الاسرائيلية على غزة، التي تجاوزت منذ السابع من أكتوبر 69 ألف شهيد، وفق الجهات الصحية في القطاع.