بيسان

الصحفيان نضال الوحيدي وهيثم عبد الواحد.. أعياد ميلاد مؤجلة ومصير حياة مجهول

المصدر
الصحفيان نضال الوحيدي وهيثم عبد الواحد.. أعياد ميلاد مؤجلة ومصير حياة مجهول
أميرة نصَّار

أميرة نصَّار

صحافيّة وكاتبة من غزَّة

عند الساعة السابعة صباحًا، جمع المصور الصحفي نضال الوحيدي الكاميرات والعدسات وأدخلها في حقيبته، وهمَّ مُسرعًا بتقبيل عائلته للنزول إلى الميدان للتغطية الصحفية للأحداث السابع من أكتوبر، فيما كان شقيقه ياسر يلتقط بهاتفه المشهد الأخير لنضال وهو في البيت، دون أن يعلم أنها الذكرى الوحيدة التي سيبقى أسيرًا لها قبل عامين والتي تنكأ جراحها في يوم ميلاد واختفاء نضال.

يحتفظ ياسر بحاسوب وملابس نضال التي أخرجها من بيتهم أثناء نزوحهم المتكرر، ويحدثنا بنبرة صوت مختنق بالحسرة: "سلم علينا نضال وقبلنا، كدت أشعر أنه يودعنا، لكن أسكت صوتي الداخلي بأنها ساعات محدودة يقضيها في التغطية ويعود، لكن الساعات حولها الاحتلال الإسرائيلي لأكثر من عامين بفقدٍ موجع وموحش للعائلة وللصحافة أجمع".

بينما لا تزال غزَّة تنزف دمًا وفقدًا، حتى مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، يظل السؤال الغامض مفتوح الجراح: ما هو مصير نضال الوحيدي وهيثم عبد الواحد؟

يصمت ياسر لثوانٍ ليلتقط نفسه ويقول: "حاولت الاتصال بنضال بعد سماع الأخبار عن ارتقاء زميله الصحفي إبراهيم لافي، لكن دون استجابة، فيما تداولت الأخبار ارتقاء نضال، لكن رفضت تصديق الخبر وتواصلت مع الإسعاف والصليب الأحمر للبحث عن جثمانه. وفي مساء اليوم الثاني ظهر فيديو من الجانب الإسرائيلي من الخلف يظهر ملامح شقيقي ومشيته التي منحتنا الأمل ببقائه على قيد الحياة".

مع كل عام يمر ويأتي يوم ميلاد نضال في الثاني عشر من آذار/مارس، تفتقده العائلة وتتمسك بالبحث عنه لكونه الابن البكر، المعروف بين أشقائه بخفة الظل والحركة، والذي يرسم الابتسامة على وجه جدته وأصدقائه. ويقول: "يوميًا تبكي جدتي على نضال وتطلب مشاهدة صوره، وتدعو الله أن تراه قبل أن توافيها المنية، ودائمًا تسأل عنه، وأحاول أن أهدئها بأن جميع المؤسسات الحقوقية والصحفية والدولية تطالب بالبحث عنه وكشف مصيره".

اعتقل الوحيدي وزميله هيثم عبد الواحد في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ورفض الاحتلال الإسرائيلي الكشف عن مصيرهما حتى اللحظة، رغم الاتفاق على صفقة تبادل بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي.

كان المصور الصحفي عبد الحكيم أبو رياش آخر من التقى بالمصور نضال الوحيدي صباح يوم السبت السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتعاهدا فيما بينهما على الالتقاء في المكتب بعد عدة ساعات، حولها الاحتلال الإسرائيلي لسنوات.

يضع عبد الحكيم يده على رأسه ويفتح قلبه لـ"الترا فلسطين" ويحدثنا عن آخر لحظات عاشها مع نضال قبل عامين في أولى ساعات حرب الإبادة: "غطيت الأحداث المتسارعة عند بوابة معبر بيت حانون 'إيرز' حينها، تواصل معي نضال وطلب عدسة الكاميرا للتغطية، منحته إياها وأخبرته بعدم المخاطرة والعمل بسرعة والالتقاء بالمكتب، ومن ثم غادرت للتغطية في مكان آخر لتسارع الأحداث".

جمعت المصوران الصحفيان أبو رياش والوحيدي علاقة زمالة صحفية وصداقة عمرها 15 عامًا، خاضا فيها التغطية الميدانية وتقاسما وجبات الطعام وتشاركا الفرحات والدمعات، إلى أن فرقهما الاحتلال الإسرائيلي حتى هذه اللحظة.

ويقول أبو رياش: "سرعان ما تلقيت مكالمة هاتفية من شقيق نضال يسأل للاطمئنان عليه كونه هاتفه 'غير متاح'. أخبرته أننا افترقنا في التغطية عند بوابة 'إيرز'، سرعان ما أغلقت مع شقيقه وقمت بالاتصال على نضال لكن دون تلقي أي رد، ومن ثم بدأت بمتابعة الأحداث الميدانية المحملة بالشهداء والجرحى، والسؤال عن نضال، وكانت الإجابات تأتي متضاربة".

يتابع الصحفي بصوتٍ مُتهدج: "اتصلت بالعديد من الأشخاص: هل شاهدت نضال؟ هناك من أخبرني بأن المكان الذي كان يصور به تم قصفه بحزام ناري، وهناك من شاهد نضال متنقلًا بين جموع الأفراد. فقدان الاتصال وعدم توفر معلومة حقيقية عن نضال ومصيره أدخلني بعزلة وحالة نفسية سيئة، لكن ما زال يتملكني الأمل بمعرفة مصيره".

ما بين الأمل واليأس، لا يزال عبد الحكيم يترقب أي معلومة عن مصير نضال ويخبرنا: "في ساعات المساء، ظهر مقطع فيديو يظهر نضال مكبلًا من الخلف، وعلى مدار العامين وحتى في الأيام الأخيرة التي يخرج بها الأسرى من سجون الاحتلال الإسرائيلي، أسأل عن نضال وأتمنى أن يخبرني أي أحد بأنه شاهده أو أنه حيّ يرزق".

ومع خروج الأسرى وخلال وقف إطلاق النار، لا تزال تترقب العائلتان أي معلومة تكشف عن مكان أبنائها دون رد من الاحتلال الإسرائيلي حتى اللحظة.

أخبرنا الصحفي شادي أبو سيدو (الأسير المحرر في صفقة التبادل الأخيرة) بشهادته التي سمعها من السجناء الفلسطينيين: "اعتُقلت في 18 مارس 2024، من مجمع الشفاء الطبي لمدة 20 شهرًا، وخلالها تعرضت للتعذيب وكنت أتنقل بين عدة سجون إسرائيلية، أمضيت أغلبها في سجن عوفر، ومن ثم نُقلت إلى سجن النقب الصحراوي".

مع قدوم الأسرى من مراكز التحقيق الإسرائيلية، كان شادي دائمًا يسأل عن زملائه الوحيدي وعبد الواحد، لاعتقالهما من بداية الحرب وفقدان أي معلومة تُدلي عنهما منذ الساعات الأولى في حرب الإبادة.

يستكمل: "مع دخول كل أسير، كنت أسأل: هل سمعتم أو شاهدتم نضال الوحيدي؟ جاء شاب من مركز تحقيق عسقلان، أخبرنا بأنه سمع اسمه نضال الوحيدي في مركز التحقيق، مجرد ذكر اسمه فقط، وأخبرني أنه صحفي، لكن لم يؤكد أنه شاهده وجهًا لوجه".

ما بين هاتين الجملتين "الصحفيان نضال الوحيدي وهيثم عبد الواحد، تردد اسمهما في السجن" و"مفقود الاتصال بهما ولا يدلي الاحتلال الإسرائيلي بأي معلومة عنهما"، تعيش العائلتان والأصدقاء ألف شعور، وحربًا طاحنة أشد قسوة من حرب الإبادة والنزوح، ولا تزال أفئدتهم وأسماعهم تنتظر بفارغ الصبر كلمة "أحياء" لتطفئ نار لهيبها.

يحتفظ هشام عبد الواحد، شقيق الصحفي المفقود هيثم، بذكرياته ومحادثاته ونهفاته التي كان يفتعلها فيما يبدأ حديثه بالتجربة الصحفية التي بدأها، ويقول: "من العام الأول على مقاعد الدراسة الجامعية سنة 2018 بدأ هيثم تطوير نفسه، ودفعه تخصصه الجامعي لاحتراف تحرير الفيديوهات والتدرب في الشركات الإعلامية التي طورت وصقلت مهارات التصوير الفوتوغرافي والفيديو لديه".

يستكمل عبد الواحد: "شغف هيثم وحبه للعمل دفعه للخروج للتغطية الميدانية منذ الساعات الأولى لحرب الإبادة، ومن ثم توالت الأنباء السيئة عنه. سرعان ما التقطت هاتفي وبدأت الاتصال عليه، لكن دون استجابة. تشاورت مع شقيقي همام: ماذا سنفعل دون أن يعلم والدنا؟ بدأت بالاتصال على الإسعاف والطوارئ للبحث والإدلاء بمعلومات عن هيثم من مواصفاته وملابسه وصوره".

بصوت تخنقه العَبْرة، يقول هشام: "عند الساعة الرابعة عصرًا، تلقيت مكالمة هاتفية من والدي بصوت مختنق، أخبرني بالحرف الواحد: 'هشام لا تعود على البيت إلا وأخوك هيثم معك'. سرعان ما ركضت إلى المشافي للبحث عن هيثم والإدلاء بالمعلومات عنه ومواصفاته".

كيف بدأتم بالبحث عن هيثم؟ يُجيب الشاب الثلاثيني لـ"الترا فلسطين": "كان الشهيد الصحفي رشدي السراج رحمه الله، هو من تصدر التواصل مع المؤسسات الحقوقية داخليًا وخارجيًا، وتوكل محامون للبحث عن هيثم ونضال، وحتى بعد ارتقاء السراج رحمه الله، كان من المقرر في نوفمبر 2023 إقامة محكمة عسكرية إسرائيلية للكشف عن مصيرهما، لكنها قوبلت بالرفض، وبعدها تم استئنافها، فقوبلت بالرفض، وبات مصير شقيقي هيثم غامضًا وموسمًا بالمفقود هيثم".

لا توجد معلومات عن هيثم؟ هذا السؤال اليومي الذي يتلقاه هشام من أسرته وأصدقاء شقيقه، ولا يستطيع الإجابة عليه، ولم يغلق باب الأمل بامتناعه عن السفر إلى مصر ليبقى عن كثب مع معرفة شقيقه الصحفي المكفول بالحماية وفق القوانين والمواثيق الدولية.

يختتم عبد الواحد حديثه: "بذلت قصارى جهدي في التواصل مع المؤسسات الحقوقية والإعلامية، للقيام بحملات مناصرة وإعلاء صوت هيثم ونضال، والضغط على الاحتلال الإسرائيلي لكشف مصيرهما والاطمئنان عنهما".

بينما لا تزال غزَّة تنزف دمًا وفقدًا، حتى مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، يظل السؤال الغامض مفتوح الجراح: ما هو مصير نضال الوحيدي وهيثم عبد الواحد؟