بيسان

حرب ما بعد القتل: حين لا يشبه الجثمان صاحبه ورحلة الغزيين بين الصدمة والانتظار

المصدر تقارير
حرب ما بعد القتل: حين لا يشبه الجثمان صاحبه ورحلة الغزيين بين الصدمة والانتظار
سماح شاهين

سماح شاهين

من غزة مهتمة بالشأن السياسي والاجتماعي والعربي والدولي

بعد توقّف أصوات المدافع والطائرات، دخلت عشرات العائلات الغزيّة حربًا جديدة؛ حربًا لا تُرى فيها النيران، بل تُرى فيها صور الجثامين، ويُسمَع فيها صمت الانتظار.

ومن بين هذه العائلات، عائلة الشهيد سلامة العروقي، الذي ارتقى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وظلّ جثمانه محتجزًا لدى الاحتلال لعامين كاملين.

تقول أسماء الصانع، زوجة سلامة، لـ"الترا فلسطين": "في كل مرة كنت أعلم أن هناك دفعة جديدة من الجثامين وصلت من الاحتلال، كنت أتهيأ كأنني أدخل معركة أخرى. أجلس أمام هاتفي، أفتح موقع صحّتي التابع لوزارة الصحة، وأبدأ البحث بين عشرات الصور. كنت أبحث عن شامة صغيرة على خدّه الأيمن، أحفظها أنا وأطفاله جيدًا".

قال مدير عام وزارة الصحة في غزة، منير البرش، لـ"الترا فلسطين": الاحتلال سلّم الجثامين في ظروف غير إنسانية، ما اضطر الطواقم إلى استخدام ثلاجات مخصصة للأسماك لحفظها مؤقتًا، في ظل تدمير مختبرات البصمة الوراثية (DNA).

لم يكن التعرّف على الجثامين أمرًا يسيرًا، وتتابع: "الملامح كانت متشابهة بطريقة قاسية؛ آثار التعذيب والتنكيل تطمس الوجوه. بعض الجثامين كانت عليها حبال حول الرقبة، أو أطراف مقيدة، أو آثار دهس بدبابات. كنت أحيانًا أتجمّد للحظات من الرعب، ثم أعود للبحث؛ لم تكن لدي وسيلة أخرى. لا مختبرات DNA ولا مستشفيات جاهزة. الفحص البصري هو كل ما نملك".

وتضيف: "هذا أكثر ما كان يمزقني. كنت أتنفّس بصعوبة وأنا أتساءل: هل مرّت صورته أمامي ولم أعرفه؟ كان ذلك الشعور يفتت روحي. أيّ عجز هذا؟ أن يكون زوجي أمامي في صورة ولا أستطيع تمييزه".

امتدّ تأثير هذه الرحلة إلى تفاصيل حياتها اليومية، وتقول أسماء: "أطفالي الثلاثة ينتظرون خبرًا صغيرًا يقول لهم إن والدهم عاد، على الأقل شهيدًا يمكننا دفنه. كل يوم يسألونني: هل وجدته؟ وأنا أعيش بين صورتين: واحدة لوجهه الذي لم أجده، وأخرى لوجوه أبطال رأيتهم في الصور ولن أنساهم".

لم يكن الفقد جديدًا على هذه العائلة، إذ تتابع: "فقدتُ أخي في حرب 2008، وفقدتُ أختي وجميع عائلتها في الحرب الأخيرة. كنت أظن أن الحزن ينتهي عندما نُسلّم الجسد ونودّع الشهيد، لكنني أدركت الآن أن غياب الجسد يجعل الفقد يمتد بلا نهاية. عندما لا تعرف قبر شهيدك، يصبح كل طريق تمشيه كأنه مقبرة".

رحلة البحث هذه ليست فردية، تقول الزوجة: "نعم، مئات العائلات تبحث مثلنا. صديقة لي فقدت زوجها أيضًا، وكانت تراسلني ليلًا وتقول: كيف أتعرف عليه؟ أنا أفقد روحي. كنت أحاول مواساتها، رغم أن قلبي مكسور مثل قلبها. كنا معًا نبحث عن بقايا أجساد أنهكها التعذيب والزمن".

وتتحدث عن سياسة الاحتلال في احتجاز الجثامين قائلة: "الاحتلال يعرف جيدًا ماذا يفعل حين يُخفي أسماء الشهداء. لا يكتفي بقتلهم، بل يشنّ حربًا أخرى علينا، حربًا تُخاض بالانتظار. هذا الانتظار ينهك القلب أكثر من القصف".

وعن أمنيتها بعد عامين من الفقد، تقول: "كل ما أريده هو أن أدفن سلامة بيدي. أن أجد مكانًا أذهب إليه وأقول له: لقد عدت يا أبو يحيى. أريد قبرًا يحتضن روحه، ويحتضن بكاء أطفاله".

جثامين لا تشبه الإنسان

قطعت نعيمة بركة عدة كيلومترات سيرًا على الأقدام للوصول إلى المكان الذي تُعرض فيه جثامين الشهداء المجهولين، ورغم كل هذا الجهد والانتظار، لم تتمكن من العثور على ابنها بين عشرات الجثامين التي وصلت. كانت تمسك بالأمل كما يُمسك الغارق بقشة، لكنها في كل مرة تعود وفي قلبها فراغ أكبر.

تقول نعيمة لـ"الترا فلسطين" إن رحلتها بدأت منذ اللحظة التي وصلها فيها خبر استشهاد ابنها قبل شهرين في أحد شوارع بني سهيلا. لم يستطع أحد انتشال جثمانه حينها بسبب الطائرات المسيّرة التي كانت تلاحق كل من يقترب.

وبعد أيام، عاد الناس للبحث، لكن المكان كان خاليًا. ومنذ ذلك اليوم، أصبحت تركض خلف كل معلومة، خلف أي جثمان يصل، لعلّ الصدفة تمنحها أثرًا يعيد لروحها شيئًا من السكون.

ورغم تعبها ومرضها، مشت مسافات طويلة للوصول إلى مكان عرض الجثامين. كانت تقول لنفسها: "لو كان حيًا لحملني على كتفيه، فهل أعجز أنا عن السير بحثًا عنه؟".

وصلت وهي تشعر بأن قلبها يكاد يسقط من الخوف. لم تعرف ما الذي ستراه، ولا إن كانت قدماها ستصمدان حين تبدأ الصور والجثامين بالظهور أمامها.

لكنها لم تتعرف إلى أيٍّ منها، وتقول وهي تحاول كتم دمعتها: "هذا ما أحرق قلبي. نظرت في الوجوه واحدًا واحدًا. بعضها بلا ملامح، وبعضها عليها آثار تعذيب، وبعضها لم يعد يشبه الإنسان أصلًا. كنت أقول: كيف سأعرفه؟ كان جميلًا، مبتسمًا دائمًا. هل مرّ أمامي ولم أعرفه؟ هذا السؤال يقتلني كل ليلة".

ما يثقل قلب نعيمة أكثر هو رغبتها في دفنه بيديها، فهي ترى في ذلك جزءًا من كرامة الشهيد، ومن حقها كأم فقدت زوجها في الشهر الأول من الحرب على غزة ولم تتمكن من وداعه، وها هي تواجه الخسارة ذاتها مع ابنها: "هل يُعقل أن يُؤخذ مني حتى جثمانه؟ أريد أن أدفنه في خان يونس، حتى أزور قبره، أضع يدي على ترابه، وأقول له: سامحني يا بني، لم أستطع حمايتك".

إمكانيات محدودة

قال المتحدث باسم الأدلة الجنائية في غزة، محمود عاشور، إن الطواقم الفنية، برفقة الطب الشرعي في لجنة إدارة الجثامين التابعة لوزارة الصحة، تواصل إجراء الفحوصات والمعاينات اللازمة للجثامين التي يجري تسلّمها من الجانب الإسرائيلي عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وذلك بموجب اتفاق وقف إطلاق النار.

وأوضح عاشور لـ"الترا فلسطين" أن فرق الأدلة الجنائية تقوم بتوثيق هذه الجثامين باستخدام التصوير الجنائي الاحترافي، ومنح كل جثمان رمزًا خاصًا، ثم عرضها عبر شاشات كبيرة في مجمع ناصر الطبي ومستشفى الشفاء، بهدف مساعدة العائلات في التعرّف إلى ذويهم.

وبحسب عاشور، فقد استلمت اللجنة حتى الآن 345 جثمانًا، جرى التعرّف على 99 منها فقط، فيما دُفنت الجثامين غير المُعرّفة بعد عدم تمكن الأهالي من التعرف إليها. ويعزو عاشور ذلك إلى التشوهات البالغة التي تعرّض لها جزء كبير من الجثامين، واختفاء ملامح الوجه والجسد نتيجة الإمعان الإسرائيلي في استهدافها، إضافة إلى التحلل المتقدم الناجم عن بقائها لفترات طويلة في العراء.

وأشار إلى أن الطواقم تواجه تحديات كبيرة بسبب محدودية الإمكانات، إذ تعتمد فقط على وسائل بسيطة في التصوير الجنائي لمقتنيات الشهداء وملابسهم، على أمل إبراز علامات فارقة قد تساعد العائلات في التعرّف إلى أحبّتهم، سواء عبر ملاحظات تتعلق بالملابس، أو إصابات سابقة، أو عمليات جراحية.

وشدّد عاشور على الحاجة الملحّة لإنشاء معمل جنائي فلسطيني متكامل يشمل مختبرات فحص الحمض النووي (DNA)، الأمر الذي من شأنه تسريع عملية التعرّف على الجثامين واستعادة المفقودين.

ودعا إلى إنشاء قاعدة بيانات خاصة بعينات DNA لأهالي المفقودين في قطاع غزة، لتسهيل مطابقة تلك العينات مع أي جثمان يُستخرج، سواء عبر عمليات التبادل مع الجانب الإسرائيلي أو من مواقع الاستهداف داخل القطاع.

تنكيل ودهس بالمجنزرات

قال مدير عام وزارة الصحة في غزة، منير البرش، إن غالبية الجثامين تحمل آثار تنكيل ودهس بالمجنزرات، وإعدامات ميدانية بإطلاق نار من مسافات قريبة، فيما وصلت بعض الجثامين بلا رؤوس أو مكبّلة الأيدي ومعصوبة العينين.

وأضاف لـ"الترا فلسطين" أن بعض الجثامين أُخضعت لعمليات تشريح دقيقة بأدوات جراحية متقدمة، ترجّح، وفق تقديره، احتمال تعرّضها لسرقة أعضاء بشرية.

وأوضح البرش أن 182 جثمانًا دُفنت في مقبرة جماعية مجهولة الهوية بسبب التحلل الشديد وغياب الإمكانات الطبية، مشيرًا إلى أن بعض الجثامين بدت عليها آثار نهش.

وبيّن أن الاحتلال سلّم الجثامين في ظروف غير إنسانية، ما اضطر الطواقم إلى استخدام ثلاجات مخصصة للأسماك لحفظها مؤقتًا، في ظل تدمير مختبرات البصمة الوراثية (DNA).

وبخصوص دفن الجثامين قبل اكتمال التحقيقات، لفت البرش إلى أن القرار كان اضطراريًا بسبب محدودية الإمكانيات، محذرًا من أن فقدان الأدلة قد يهدد قدرة الفلسطينيين على إثبات الجرائم، ومؤكدًا حاجة الوزارة إلى دعم دولي وتقني لتوثيق الانتهاكات بشكل علمي.