بيسان

عائلات بديلة في زمن الحرب: عندما يولد التضامن من قلب المحنة

المصدر تقارير
عائلات بديلة في زمن الحرب: عندما يولد التضامن من قلب المحنة

لم تكن براء أبو حسنين تتوقع أن تمنحها الحرب عائلة جديدة. ففي مخيم المواصي بخان يونس، وبين الخيام المتلاصقة، نشأت علاقة إنسانية ولّدتها الصدفة وصقلتها الأيام القاسية. بدأت الحكاية حين استيقظ طفلٌ لجارتهم باكيًا أثناء غياب والدته، فحملوه وهدّأوه حتى عودتها. تقول براء: "من هذه اللحظة شعرنا إنها قريبة منا. كأننا نعرفها من قبل".

يقول أستاذ علم الاجتماع أحمد العرابيد إن الروابط التي نشأت بين العائلات خلال النزوح من شمال غزة إلى جنوبها "ليست حالة استثنائية، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه. والضغوط النفسية والاجتماعية دفعت النازحين إلى الاحتماء ببعضهم"

مع توالي البرد والقصف، تحوّل هذا التعارف البسيط إلى سند يومي. "فكنا نجلس أمام الخيمة نشرب الشاي ونتشمس في الصباح، وكانت تفتح قلبها لنا، تحكي عن استشهاد والدتها وعن اللحظات التي كسرتها وأعادتها من جديد" أضافت براء.

ومع اشتداد القصف وغرق الخيام، صاروا يركضون نحو بعضهم قبل التفكير بأمتعتهم، ليكتشفوا أن ما يجمعهم أكبر من مجرد الجوار المؤقت. تقول براء: "صرنا نعرف أن أولوية كلٍّ منا هي الآخر. وجودها ووجود أطفالها معنا خفّف الكثير. كان شعور العائلة حقيقيًا، ليس مجرد كلمة."

الأطفال كانوا الرابط الأعمق، وخصوصًا طفلها زين الذي لم يُكمل عامه الأول. فقد وجد في براء وعائلتها حضنًا بديلًا، يناديهم "خالتو" و"عمو"، ويقضي معظم وقته بينهم. تقول براء: "كبر زين بيننا. كان وجوده يمنح الحياة طعمًا مختلفًا وسط كل هذا الظلام."

وتوضح براء أنهم كانوا يصنعون المعجنات والحلويات من القليل المتاح، ويتشاركون التفكير في وجبة اليوم وسط المجاعة، ويخلقون لحظات ضحك تخفف الخوف، فيبتكرون عادات صغيرة تجعل الخيمة بيتًا مؤقتًا. ومع الوقت، تحولت هذه التفاصيل إلى رابط قوي وصنعت بينهم عائلة وُلدت من قلب المحنة.

وتضيف: "حتى في نزوحنا الثاني هي من دبرت لنا مكانًا نذهب إليه. ما زلنا نزورهم ونتواصل يوميًا تقريبًا. تعلّقنا بأطفالها وكأننا جزء من نشأتهم". وأعربت عن اعتقادها أن "العلاقات في الحرب تنمو بسرعة لأن الجميع يبحث عن الأمان. فقد كنا نعيش الألم نفسه ونحاول أن ننجو سويًا، وهذا ما جعل الرابط بيننا عميقًا وصادقًا."

من جانبها، تروي هناء شامية تجربة مشابهة، مبينة أن الحرب فتحت لها بابًا لعائلة لا تعرفها أصبحت "أقرب إليها من الدم". وتقول إن القصة بدأت حين كان زوجها يبني خيمة بسيطة في الزوايدة، فبادرت عائلةٌ إلى مساعدته وعرضت استضافتهم دون أي مقابل، لتكون هذه الخطوة بداية علاقة لم تتوقع أن تجدها في زمن الحرب.

وتصف هناء تلك العائلة بأنها "سند حقيقي رغم ضيق حالهم"، فقد وفرت لهم الملابس والتدفئة وغرفة دافئة بعد خروجهم من الشمال بلا شيء. ومع الأيام، تحولت العلاقة إلى جوٍ عائلي يشاركون فيه المناسبات والطهو والسهر حول النار. تقول هناء: "كانت تنظر إليّ وتقول: أنتِ بس شوفي النار، لا تتعبي حالك."

ومع مرور الأيام، وجدت هناء في سيدة العائلة روحًا أمومية افتقدتها. تقول: "كانت تقول لي دائمًا: أنتِ ابنتي التي لم أنجبها. كانت تشعر بي قبل أن أتكلم". وتؤكد هناء أن العلاقة لم تُبنَ على مصلحة أو انتظار مقابل، بل على صدقٍ نادر خلقته الأزمة.

كما تحولت يومياتهم تدريجيًا إلى حياة مشتركة: إعداد الطعام، الجلسات العائلية، تبادل الضحكات، وحتى مواجهة الخوف خلال القصف. تضيف هناء: "لم يحدث بيننا أي خلاف يُذكر. كنا عائلتين مثاليتين نراعي بعضنا، وإن حصل شيء بسيط كنا نتجاوزه فورًا".

وتؤكد هناء أنه بعد انتهاء الحرب وعودتهم إلى الشمال بقيت العلاقة كما هي، "فواصلنا مساعدتهم بما استطعنا. علاقتنا ما زالت جميلة ولم تتغير. هذا خير رباني يذكّرنا بأن الخير موجود مهما طال الخراب."

أما كنان نصر فعاش تجربة مختلفة قليلاً عند نزوحهم لدى إحدى العائلات في النصيرات. في البداية، وجد صعوبة كبيرة في التأقلم مع مكان غريب لا يعرف تفاصيل حياة أصحابه، إذ إن "كل حركة أو قرار صغير كانت تثير خوفه من أن يزعج أحدًا وسط ضيق الظروف وقسوة الحرب" حسب قوله.

بدا الأمر بالنسبة لكنان وكأنه يعيش في عالم جديد، يفرض عليه الالتزام بقواعد لم يختَرها، وسط خوف مستمر من القصف والمجازر المحيطة.

لكن مع مرور الأيام، بدأت الحواجز تتلاشى تدريجيًا، وتكوّنت علاقة جميلة بينه وبين أفراد العائلة المستضيفة. فأصبح المكان "أشبه بحاضنة اجتماعية صغيرة، حيث يتقاسم الجميع الماء والغذاء والاحتياجات اليومية، ويعمل أهل المنزل على تخفيف الأعباء عن النازحين قدر الإمكان".

يضيف كنان: "كل شيء أصبح مشتركًا. من تعبئة المياه إلى إعداد الطعام، وحتى ترتيب المكان في الصباح. كل هذا منحني شعورًا بالطمأنينة وجعلنا أقرب لبعضنا."

ويشير إلى أن الأطفال لعبوا دورًا محوريًا في تعزيز الروابط، "فرؤية الأطفال وهم يلعبون وتبادل الابتسامات بيننا خفف الكثير من وطأة الخوف، وجعلنا نشعر وكأننا نعيش حياة طبيعية رغم الحرب".

ويوضح كنان أنه وجد في المكان دعمًا نفسيًا واجتماعيًا حين تلقى خبر فقدان قريب، ورغم الخوف والفواجع، تمسك الجميع ببعضهم وقرروا البقاء معًا رغم الخطر. ويؤكد: "الظروف لم تمنحني هذا الدعم، لكن العائلة الجديدة حولت الخوف إلى شعور بالأمان."

ويضيف: "ما جمعنا لم يكن فقط الحاجة، بل روابط إنسانية حقيقية ولّدتها الحرب. تعلمت أن الإنسانية يمكن أن تظهر في أبسط التفاصيل، وأن الحب والدعم يمكن أن يولدا في قلب المحنة."

ويقول أستاذ علم الاجتماع في جامعة الأقصى أحمد العرابيد إن الروابط التي نشأت بين العائلات خلال النزوح من شمال غزة إلى جنوبها "ليست حالة استثنائية، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، يؤثر ويتأثر بالآخرين ويتفاعل معهم، ولا يستطيع أن يعيش بمعزل عنهم".

ويوضح العرابيد، في حديث لـ"الترا فلسطين"، أن الضغوط النفسية والاجتماعية دفعت النازحين إلى الاحتماء ببعضهم، وتخفيف أوجاع بعضهم البعض، وهذا ولد روابط تشبه روابط النسب أو الصداقة الممتدة.

ويؤكد أن عنصر الأمان النفسي والاجتماعي الذي تقدمه العائلة المستضيفة أو المجاورة للأخرى لعب دورًا محوريًا في تعزيز هذه الروابط وتقويتها، ويشكل ما يسمى علاقة "عائلة بديلة" تمنحهم سندًا افتقدوه في الحرب.

ورغم أنّ قوة هذه العلاقات قد تختلف بعد انتهاء الحرب وعودة العائلات إلى مناطقها مرة أخرى، إلا أنّ أثرها يبقى قائمًا، لأن هذه الروابط تشكّلت داخل تجربة قاسية تركت بصمتها في ذاكرة كل من عاشها.