بيسان

من المبادرة إلى السوق: كيف تحوّل العمل الإنساني في غزة إلى اقتصاد بلا رقابة

المصدر تقارير
من المبادرة إلى السوق: كيف تحوّل العمل الإنساني في غزة إلى اقتصاد بلا رقابة
محمد نشبت

محمد نشبت

كاتب صحفي من فلسطين

في الأيام الأولى للحرب على قطاع غزة، لم يكن الناس يسألون عن الآليات ولا عن التقارير المالية. كانت الحاجة عارية، والجوع مباشرًا، والخوف يسبق أي سؤال آخر. حينها، بدت المبادرات الفردية كفعل إنقاذ جماعي، محاولة بدائية لسد فجوات تركها انهيار الإغاثة الرسمية، وتراجع قدرة المؤسسات الدولية على الوصول إلى المنكوبين.

شاب يجمع تبرعات من أصدقاء في الخارج، مجموعة تُطلق صفحة على مواقع التواصل، مبادر يتنقل بين الخيام ويوزع ما تيسّر. في تلك اللحظة، كانت المبادرة فعل تضامن، لا مشروعًا، واستقبلها الناس بثقة نابعة من اليأس أكثر مما هي مبنية على ضمانات.

لكن مع امتداد الحرب، وتحوّل الطارئ إلى دائم، بدأ السؤال يتسلل بهدوء: ماذا يحدث حين تتحول المبادرة من استجابة عاجلة إلى نشاط بلا سقف؟ ومن يراقب حين يصبح الألم نفسه موردًا؟

لم تنشأ المبادرات الفردية في غزة كبديل مقصود عن المؤسسات، بل كاستجابة مباشرة لواقع استثنائي

اقتصاد الظل أولًا: الإطار الذي وُلدت داخله المبادرات

قبل الخوض في دور المبادرات، لا بد من التوقف عند السياق الأوسع الذي تشكّل فيه كل شيء. فبحسب الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر، لا يمكن تحميل المبادرات الفردية مسؤولية نشوء اقتصاد الظل في غزة، إذ إن هذا الاقتصاد فُرض بالقوة مع بداية الحرب.

يوضح أبو قمر أن إسرائيل، منذ الأيام الأولى للعدوان، عملت على تجريد المؤسسات الرسمية والقطاعات الإنتاجية والحكومة من أدوارها، سواء عبر الاستهداف المباشر أو عبر خلق بيئة تسمح لاقتصاد غير منظم بأن يهيمن. 

وبهذا، أصبح اقتصاد الظل هو المسيطر على معظم القطاعات، بما فيها القطاع المصرفي نفسه، الذي خضع لمنظومة “التكييش”، وتراجع فيه دور سلطة النقد والبنوك إلى حد كبير.

في هذا السياق المنهار، لم تكن المبادرات استثناءً، بل وُلدت داخل منظومة مختلة أصلًا، ما جعل انزلاق بعضها إلى هذا الاقتصاد شبه الحتمي.

من فراغ الإغاثة وُلدت الفكرة

لم تنشأ المبادرات الفردية في غزة كبديل مقصود عن المؤسسات، بل كاستجابة مباشرة لواقع استثنائي. المعابر مغلقة، سلاسل الإمداد مقطوعة، والقدرة التشغيلية للمنظمات الدولية محدودة. في هذا الفراغ، تحرك أفراد بلا خبرة مؤسسية، لكن بدافع المسؤولية.

يقول أبو يزن (اسم مستعار)، وهو مبادر سابق في وسط القطاع: "لم يكن لدينا وقت للتفكير. المال يصل من الخارج، والناس حولنا بلا خبز. كنا نوزع فورًا".

في تلك المرحلة، لم تُطرح أسئلة الشفافية. كانت الأولوية للبقاء. لكن حين تضخم حجم التبرعات، وتعددت المبادرات، وبدأت الأموال تُدار خارج أي إطار، تغيّر المشهد.

حين دخل المال وخرج التنظيم

مع مرور الوقت، تحولت بعض المبادرات إلى كيانات شبه دائمة: حملات جمع مستمرة، صفحات نشطة، تصوير يومي، وخطاب إنساني موجّه للداعمين في الخارج. لكن كل ذلك جرى في غياب تام لأي آلية تسجيل أو رقابة أو مساءلة.

لا لوائح داخلية، لا كشوف حساب، ولا جهة تُلزم المبادرين بالإفصاح عن مصادر الأموال أو أوجه صرفها. هذا الفراغ لم ينتج أخطاء فردية فقط، بل فتح الباب أمام ممارسات أعمق وأكثر خطورة. وسط هذا المشهد، لا يمكن إنكار وجود مبادرات حافظت على طابعها الإنساني.

سليم (اسم مستعار)، متطوع في مبادرة شبابية، يقول إنهم تعمدوا منذ البداية تقليل التصوير وشرح تفاصيل العمل للمستفيدين. "كنا نخبر الناس من أين جاء المال، وكم لدينا، ومتى ينتهي المشروع. لم نطلب منهم الظهور في الصور. وحين توقف التمويل، توقفنا". هذه الشهادة لا تُستخدم للمدح، بل لتحديد المعيار: ما الذي يجعل المبادرة إنسانية فعلًا، وما الذي يحولها إلى مساحة رمادية.

اقتصاد الصورة: حين تصبح المساعدة مشهدًا

مع اتساع دور وسائل التواصل، تحولت الصورة من وسيلة توثيق إلى عملة. صورة طفل يتلقى طردًا، امرأة تبكي، رجل يرفع كيس طحين. هذه الصور لم تعد مجرد دليل على المساعدة، بل أداة أساسية لاستمرار التمويل.

لكن الفرق بين التوثيق والاستعراض تلاشى في كثير من الحالات. خلال الأشهر الماضية، تداول ناشطون مقاطع مصورة، بعضها بتصوير خفي، تُظهر مبادرين يسلّمون مساعدات أمام الكاميرا، ثم يستعيدونها بعد انتهاء التصوير. ورغم صعوبة التحقق من كل مقطع على حدة، فإن تكرار النمط خلق حالة شك واسعة.

في هذا السياق، لم تعد الصورة وسيلة لنقل الحقيقة، بل أداة لضبط السرد. تُنتج المساعدة أحيانًا وفق ما يصلح للنشر، لا وفق ما يلبّي الحاجة، ويُعاد ترتيب الفعل الإنساني ليتناسب مع الكاميرا، لا مع الواقع.

ليلى (اسم مستعار)، نازحة من شمال غزة، تقول إن مبادرين طلبوا منها الوقوف مع أطفالها أمام الكاميرا أثناء تسلّم المساعدة: "قالوا إن الصورة ضرورية لإقناع الداعمين. بعد التصوير، أخبرونا أن الطرود ستُعاد توزيعها لاحقًا. لم نرَ شيئًا بعدها". تضيف ليلى: "لم يكن مؤلمًا فقدان الطرد بقدر الشعور بأننا استُخدمنا".

كيف ساهمت بعض المبادرات في تثبيت الغلاء؟

بحسب الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر، فإن الإشكالية الأبرز لا تتعلق فقط بالتصوير، بل بالدور غير المباشر الذي لعبته بعض المبادرات في تعميق الأزمة الاقتصادية.

يوضح أبو قمر أن المبادرين، في ظل شح السلع، اتجهوا إلى شراء كميات كبيرة من السوق دون مفاصلة، وبالأسعار التي يفرضها التجار، ما ساهم في تثبيت أسعار مرتفعة، رغم تراجع القدرة الشرائية بشكل حاد. ويضيف أن المنطق الاقتصادي كان يفترض انخفاض الأسعار مع ضعف الطلب، لكن ما حدث هو العكس.

كما يشير إلى أن نسبة "التكييش" وصلت في بعض الفترات إلى نحو 52%، وهو ما دفع كثيرين لبيع ذهبهم أو الاستدانة بدل سحب أموالهم. في المقابل، واصل بعض المبادرين سحب الأموال بهذه النسبة المرتفعة، ما عزّز فكرة أن هذه العمولة "طبيعية"، وكرّس الطلب على النقد، وأسهم في تعميق أزمة السيولة.

ويضيف أبو قمر أن بعض المبادرات روّجت لمشاريع ذبح خراف وتوزيع لحوم، في وقت كانت فيه هذه السلعة نادرة جدًا داخل غزة. هذه الصورة، بحسبه، أوصلت للعالم انطباعًا مضللًا بأن الغذاء متوفر، وأن المجاعة غير قائمة، وهو ما انعكس سلبًا على سردية الواقع الإنساني، وعلى حجم التعاطف والدعم الخارجي.

في شمال القطاع، واجه صحفيون محليون مبادرين ادعوا أن طواقمهم تعرضت للاعتقال أو التصفية من قبل الجيش الإسرائيلي. لكن بعد البحث والمتابعة، تبيّن أن هذه الروايات غير صحيحة، وأن الأشخاص الذين قيل إنهم قُتلوا أو اعتُقلوا لم يتعرضوا لأي أذى. 

أحد الصحفيين الذين تابعوا هذه الحالات يقول، مفضلًا عدم ذكر اسمه: "القصة كانت جاهزة لجلب التعاطف والمال. وحين بدأنا السؤال، انهارت الرواية".

لاحظ مواطنون نمطًا متكررًا: مع تصاعد الانتقادات ضد مبادر معين، يظهر فجأة نشاط إغاثي عاجل، محدود، ومصوَّر بكثافة، ثم يتوقف. مازن (اسم مستعار)، من خان يونس، يقول: "بعد أشهر من الشكاوى، وزعوا عشرين طردًا خلال يومين وصوّروها من كل زاوية. بعدها اختفوا".

ريم (اسم مستعار)، أرملة تعيل ثلاثة أطفال، تقول إن أكثر ما آلمها لم يكن توقف المساعدة، بل صمت المبادرة. "حين انتهى التصوير، انتهى السؤال عنا. لم نكن أرقامًا في تقرير، بل بشرًا تُركوا فجأة".

السفر: الذروة الصامتة للاتهام

في الأشهر الأخيرة، تداول ناشطون أسماء مبادرين وُجهت لهم اتهامات بالاكتناز والاستغلال. بعض هؤلاء غادروا القطاع لاحقًا، وسط حديث عن تقارير طبية غير دقيقة، أو أوراق جرى التلاعب بها، أو دفع مبالغ مالية لجهات تساعد على السفر.

ورغم عدم صدور أحكام رسمية، فإن تزامن هذه الوقائع مع توقف المبادرات فجأة، زاد من فقدان الثقة، وعمّق الشك في مشهد المبادرات ككل.

الحقوقي أحمد العويطي يرى أن المشكلة لا تكمن فقط في النوايا، بل في غياب الإطار. ويقول إن "التصوير دون موافقة واضحة، واستخدام صور المستفيدين لجمع التبرعات، قد يشكل انتهاكًا لحقوقهم، حتى في ظل غياب منظومة قانونية فاعلة فرضتها ظروف الحرب". ويضيف أن غياب آليات الشكوى والمساءلة "يترك المستفيدين بلا حماية، ويجعل أي استغلال محتمل غير قابل للمحاسبة".

في ظل غياب التنظيم، تتقاطع المبادرات مع واقع معقّد من النفوذ والتفاهمات. مصدر أمني فضّل عدم الكشف عن اسمه قال إن "العمل الإنساني الفردي خلال الحرب تحوّل إلى مساحة رمادية". وأضاف: "في بعض الحالات، تُفرض إتاوات نقدية أو عينية مقابل تسهيل العمل أو غضّ الطرف".

اختيارات المبادر: بين الخدمة والحماية

اختار محمود (اسم مستعار) توجيه توزيع المبادرة إلى منطقة محددة في خانيونس، قريبة من شاطئ البحر، رغم أن ذلك لم يمنحه صورة أوسع أو وصولًا لأكبر عدد من الناس. يوضح محمود أن السبب كان حماية نفسه وضمان استمرار العمل: "أوزع بالمربع الذي أنا موجود فيه هنا، بنص الناس وبعيد عن عناصر الحكومة، كمان محدش بيقدر يوصلني، ولا يسألني، ولا يعتقلني، أي خطر الناس راح تحميني".

هذا القرار يعكس أن بعض المبادرات في غزة لا تُتخذ فقط بناءً على الحاجة أو حجم المستفيدين، بل بناءً على اعتبارات أمنية وحماية المبادر، وهو جانب غالبًا ما يغيب عن القراءة السطحية للمشهد الإنساني.

لا يدين هذا التحقيق كل المبادرات، ولا يشكك في كل مبادر. لكنه يضع الوقائع في سياقها: حين يغيب التنظيم، لا تعود النوايا كافية. وحين يتحول العمل الإنساني إلى جزء من اقتصاد الظل، يصبح الضرر مضاعفًا، حتى لو لم يكن مقصودًا.

في غزة، لم تعد المشكلة في وجود المبادرات، بل في تركها تعمل بلا إطار. وحين يحدث ذلك، لا يكون السؤال: من سرق؟ بل من سمح أن يتحول التضامن إلى اقتصاد بلا رقابة، ويُترك المواطن، مرة أخرى، وحيدًا في قلب الكارثة؟ وما الإطار الذي يمنع تكرار ذلك مستقبلًا؟