من بيت الباطون إلى بيت الطين. تحولٌ صادم في حياة سلوى حسب الله وأسرتها مع نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. فبينما يزين سكان العالم بيوتهم لاستقبال الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين، تجلس الأم الربعينية على الحجارة المتصدعة وتفتِّت كرات الطين البُنِّية وترشها بالماء مستذكرة "شقى العمر" الذي دمرته إسرائيل في لحظة.
"بدنا نستر حالنا بالمتوافر والمتماشي مع الوقت الحالي، فلا إسمنت، ولا حجارة، ولا إعمار، والحياة في الخيام صعبة لا تقي من حرّ الصيف ولا برد الشتاء، فضلاً عن انعدام الخصوصية، وحتى الأمان فيها من الكلاب والقطط معدوم"
تقول سلوى: "قصفوا بيتنا الذي دفعنا في بنائه تحويشة العمر، واندفعنا للنزوح في المدارس والخيام والشوارع، ثم بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من حارتنا عدنا لنجد البيت مدمرًا، حتى أننا لم نستطع استصلاحه على الإطلاق".
ورغم انقضاء الشهر الثاني بعد توقيع اتفاق إطلاق النار، إلا أن جيش الاحتلال يواصل منع إدخال مواد البناء إلى قطاع غزة، ضمن مئات الأصناف الممنوعة استمرارًا لحرب الإبادة ونهج الترحيل القسري. هذا الحصار دفع الكثير من العائلات الفلسطينية في غزة إلى البحث عن حلول ولو مؤقتة تكون أقل سوءًا من حياة الخيام، ومن ذلك استصلاح المساكن بالمواد المتوفرة من الخشب والطين وألواح الزينكو، رغم أن جميعها غير آمنة وعرضة للانهيار في أي لحظة.
تجبل أنامل سلوى الطين بينما تنساب قطرات العرق على وجهها وتضيف: "أولادي خاطروا بحياتهم وأرواحهم وأحضروا الطين من منطقة السكة الواقعة في حيّ الزيتون، وهي من مناطق الخط الأصفر التي تتمركز فيها الدبابات وقوات الاحتلال الإسرائيلي، ولا تتوقف فيها عمليات نسف المنازل خصوصًا في الساعات المتأخرة من الليل".
وتوضح سلوى أن أبناءها ومعهم أبناء الجيران أزالوا الحجارة المتهالكة وانتشلوا الحجارة السليمة جزئيًا وقاموا بتنظيفها من بقايا الإسمنت العالق فيها، ثم صفُّوها فوق بعضها البعض وجبلوها بالطين بدل الإسمنت المقطوع أو المتوفر بأسعار أغلى من أن تستطيع عائلتها دفعها.
وكانت البيوت الطينية نادرة في قطاع غزة، وينظر إليها باعتبارها إرثًا حضاريًا يعود إلى الأجداد ومزارًا للرحلات والجلسات التراثية، يلتقطون فيها صورًا تذكارية، مثل الأكواخ التراثية على شاطئ مدينة رفح.
يقاطعنا ابنها مهند وهو يحمل بكلتي يديه الحجارة الإسمنتية قائلاً: "بدنا نستر حالنا بالمتوافر والمتماشي مع الوقت الحالي، فلا إسمنت، ولا حجارة، ولا إعمار، والحياة في الخيام صعبة لا تقي من حرّ الصيف ولا برد الشتاء، فضلاً عن انعدام الخصوصية، وحتى الأمان فيها من الكلاب والقطط معدوم". خلال الأعوام الأخيرة قبل الإبادة، شهد قطاع غزَّة نهضة عمرانية وتطورًا تكنولوجيًّا ملحوظًا شمل المباني السكنية والشركات والفنادق، التي أخذت تتنافس في تصاميمها وديكوراتها مع العمارة الحديثة على المستوى العالمي. غير أن حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل لعامين ثم ألحقتها بحصار خانق حولت غالبية المباني أثرًا بعد عين.
وخلال الأعوام الأخيرة قبل الإبادة، شهد قطاع غزَّة نهضة عمرانية وتطورًا تكنولوجيًّا ملحوظًا شمل المباني السكنية والشركات والفنادق، التي أخذت تتنافس في تصاميمها وديكوراتها مع العمارة الحديثة على المستوى العالمي. غير أن حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل لعامين ثم ألحقتها بحصار خانق حولت غالبية المباني أثرًا بعد عين.
من جانبه، رضوان عزام (36 عامًا) جرف الاحتلال أرضه الزراعية وقصف بيته. وبدل أن يجني من تربة أرضه الخضار الورقية أخذ يستخدمها في ترميم بيته وقصارته. يحمل عزام كيس الطين على ظهره ويقطع به مسافة كيلومتر تقريبًا من أرضه إلى منزله، وعند وصوله يناوله أطفاله الخمسة الماء والقش لمعاونته في ترميم البيت.
يشير عزام إلى أطفاله ويقول: "بدل أن يكونوا في المدارس وبيت باطون آمن، يعاونونني في ترقيع غرف طينية". ويضيف: "العمل متوقف وإيجارات البيوت تتجاوز 500 دولار، ومع انعدام الدخل لم يبق لنا إلا ترقيع بيوت الطين ولفها بالشوادر حتى لا تغرقها المياه والأمطار وتنهار علينا".
يستذكر عزام البيوت الهادئة والمتعوب على ديكوراتها في غزة، ولا يستطيع إلا أن يقارنها ببيوت الطين الخالية من أي روح أو إبداع. "لكن هم يهدون ونحن نعمر، ولن نترك حياتنا للاحتلال" أضاف.
ودمرت الحرب أكثر من 123 ألف وحدة سكنية، كما تضرر 75 ألف مبنى آخر، ما يمثل 85% من مباني قطاع غزة، وفقًا لأحدث مراجعة للصور الفضائية من الأمم المتحدة.
ويقول الكاتب والباحث رزق المزعنن إنه عاصر البناء بالطين، حيث كان الشكل السائد للبناء في زمنه يعتمد على "الدبش"، وهو حجر جيري خام غير مصقول، بأحجام كبيرة نسبيًا، يُستخرج من المحاجر ويُعرف بصلابته وقوته.
ويوضح المزعنن أن الدبش كان يُرصّ باستخدام الطين لسد الفراغات بين الحجارة، ثم يُجبَل بالقصل، وهو خليط من بقايا الشعير والقمح المدروس، يُوضع فوق الطين بهدف تقويته وتماسكه. وبعد ذلك يُشيَّد البناء باستخدام الشيد، وهو الجير المعروف كيميائيًا بهيدروكسيد الكالسيوم.
يؤكد المزعنن أن ترميم البيوت كاملة بالطين غير آمن ولا عملي خصوصًا في المطر، بل يمكن أن يكون حلاً مؤقتًا
ويضيف: "بيوت الأجداد بُنيت على هذه الشاكلة، حيث التحضر الإنساني أقل ولم تكن البيوت بطوابقَ مثل اليوم، بل كانت غرفًا أرضية صغيرة. وقبل مواسم الشتاء والخريف يتم ترميم الجدران وتلييسها لحمايتها من مياه الأمطار وتقوية مقاومتها للعوامل الطبيعية مثل الرياح".
ويؤكد المزعنن أن ترميم البيوت كاملة بالطين غير آمن ولا عملي خصوصًا في المطر، بل يمكن أن يكون حلاً مؤقتًا. ويضيف: "بناءً على خبرتي الكيميائية، أقول إن بإمكان العائلات مزج الرمل مع الكلس (أي كربونيات الكالسيوم المعروفة بالطباشير) وخلطها بالرمل، فهذا الحل أفضل من الطين، لأنه رابط قوي لا يذوب بالماء كونه مادة صخرية".