بيسان

مجزرة مالية صامتة: كيف التهم التكييش نصف مدخرات الغزيين

المصدر تقارير
مجزرة مالية صامتة: كيف التهم التكييش نصف مدخرات الغزيين
محمد نشبت

محمد نشبت

كاتب صحفي من فلسطين

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الشاملة على قطاع غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، لم يكن القصف والانهيار العمراني والجوع وحدها العوامل التي غيرت ملامح الحياة اليومية. كانت هناك جبهة أخرى تعمل بلا ضجيج، تنفذ تأثيرها على كل أسرة وكل متجر وكل معونة وكل حوالة مالية تدخل القطاع. إنها جبهة الاقتصاد المنهك الذي تُرك يتآكل ببطء، حتى بات النقد مفقودًا، وأصبح الحصول عليه معركة يومية.

في ظل هذا الانهيار، وُلدت ظاهرة التكييش، التي لم تكن مجرد آلية للحصول على النقود، بل كانت عملية استنزاف منهجية حوّلت المدخرات والحوالات إلى مصدر أرباح للوسطاء ووجعًا مستمرًا للناس. ومع عمولات وصلت في ذروتها إلى أكثر من نصف قيمة الحوالة، تبدلت حياة آلاف الأسر، وتحولت نقودها إلى شظايا لا تكفي لتغطية أبسط الاحتياجات. هنا، لم يكن التدمير اقتصاديًا فحسب؛ بل كان إعادة تشكيل كاملة لمعنى القيمة والعيش والبقاء.

مع انهيار النظام المصرفي واحتجاز الودائع داخل حسابات لا يمكن الوصول إليها، ظهر الوسطاء والصرافون باعتبارهم المصدر الوحيد للنقد. أصبحوا يبيعون الكاش كما تُباع السلع، مقابل عمولة تتغير وفق مستوى المخاطر وشحّ السيولة

انهيار البنية المصرفية وولادة اقتصاد بلا نقد

مع الأيام الأولى للحرب، تعرّض القطاع المصرفي لشلل شبه كامل. دُمّرت أو أُغلقت معظم فروع البنوك، فيما تعطلت أجهزة الصراف الآلي بسبب القصف وانقطاع الكهرباء والإنترنت. وتقديرات المؤسسات المحلية تشير إلى أن أكثر من 80% من فروع البنوك خرجت عن الخدمة، و95% من أجهزة الصراف الآلي لم تعد قادرة على العمل.

لكن الضربة الأكثر أثرًا جاءت من قرار إسرائيلي صارم بمنع إدخال أي شحنات نقدية جديدة إلى غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023. وفي اقتصاد يعتمد بالكامل تقريبًا على النقد الورقي بسبب غياب الخدمات المصرفية الإلكترونية، أدى ذلك إلى استنزاف الكتلة النقدية خلال أشهر. أصبحت الأوراق النقدية المتداولة قليلة وبحالة متردية، بعضها ممزق ومحروق، وبدأت تظهر مفارقة جديدة: الحسابات البنكية ممتلئة نسبيًا، لكن أصحابها غير قادرين على سحب دولار واحد.

أحد موظفي البنوك الذي رفض الكشف عن اسمه لخشيته من المساءلة، قال إن المؤسسات المالية "دخلت في موت سريري"، وأضاف: "لم نعد قادرين على تشغيل أي خدمة أساسية. حتى تحويل الراتب من حساب إلى حساب أصبح بلا معنى، لأنك في النهاية تحتاج ورقة نقدية غير موجودة أساسًا". في هذا الفراغ، كانت السوق السوداء مستعدة للتمدد.

صعود التكييش.. حين أصبحت الحوالة نصف حياة

مع انهيار النظام المصرفي واحتجاز الودائع داخل حسابات لا يمكن الوصول إليها، ظهر الوسطاء والصرافون باعتبارهم المصدر الوحيد للنقد. أصبحوا يبيعون الكاش كما تُباع السلع، مقابل عمولة تتغير وفق مستوى المخاطر وشحّ السيولة.

في بداية 2024 تراوحت عمولة التكييش بين 18 و25 في المئة، لكنها ارتفعت بسرعة مع اشتداد الحرب، ووصلت في منتصف 2025 إلى متوسط بلغ 50%، وسُجّلت حالات صادمة تخطت 54%. وبذلك، تحوّل كل دولار يدخل غزة إلى معركة، يتحكم فيها من يملك السيولة التي صارت أغلى من الذهب.

تفسير الصرافين لهذا الارتفاع يرتكز على رواية واحدة: ندرة النقد. فالوصول إلى أي مبلغ ورقي بات عملية معقدة ومحفوفة بالمخاطر، تتم عبر سلاسل غير رسمية، وتكلّف الوسيط نفسه عمولات يدفعها في مراحل مختلفة. يُضاف إلى ذلك انعدام الأمن، وتدمير أماكن الحفظ، وانهيار شبكات النقل. الصراف م.ع لخص الأمر بقوله: "لو كان عندي مليون دولار نقدًا اليوم، لكانت قيمته ضعف قيمته الحقيقية. السيولة أصبحت محصولًا موسميًا يتحكم بها أصحاب سلطة وقرار". لكن المعادلة بالنسبة للمواطنين لم تكن مجرد اقتصاد غير طبيعي؛ كانت خسارة حياة كاملة.

الناس في قلب العاصفة

كانت الشهادات التي جمعناها من مواطنين وصرافين وموظفين وتجار كاشفة لطبيعة الأزمة التي عاشها القطاع لمدة عامين، وأثرها الذي تجاوز الاقتصاد ليطال البنية الاجتماعية والنفسية للأسر.

تقول نادية محمد أم لثلاثة أطفال، وهي نازحة فقدت منزلها في شمال القطاع، إنها اضطرت لطلب حوالة من ابنها في الخارج لشراء خيمة وبطانيات وبعض الطعام. تضيف: "ابني أرسل ألف دولار. ذهبت للصراف، فقال لي إنني سأستلم 480 فقط. شعرت أنني أدفع ثمن الحرب مرتين. لكن ماذا أفعل؟ الخيمة لا تُشترى بالكرت البنكي وما يوزع لنا لا يصلنا".

في حين عبر عبد الحميد حمد الذي فقد عمله منذ بداية الحرب إن "الراتب لم يعد له معنى". فحين تصل حوالة صغيرة من أقارب له، يجد نفسه مضطرًا لبيع نصفها كي يتمكن من شراء الخبز والغاز المستخدم للطبخ. يضيف: "أحيانًا أستلم نصف المبلغ. وأحيانًا أقل. لكني لا أجرؤ على الاعتراض. لا يوجد خيارات أخرى؛ تخيل أن الصراف يشاركني مالي!".

من جانب آخر، يروي ح.ش موظف بنك أنه شعر للمرة الأولى أن دوره المهني أصبح بلا قيمة، إذ يرى الناس يقفون أمام بنك مغلق لا يستطيع تقديم شيء لهم، "كانوا يأتون إلينا كأننا نملك مفاتيح خزائن الذهب، بينما نحن لا نملك الورق النقدي نفسه. الأزمة كانت أكبر من النظام البنكي بكامله".

خ.ر صراف شاب يعمل في مكتب صغير وسط القطاع يصف عمله بأنه "مقامرة يومية". يوضح أنه غالبًا يحتاج لدفع عمولات مسبقة للحصول على سيولة، وأن نقل الأموال بات يتم في ظروف خطيرة. ويقول: "نحن لا نسرق أحدًا، لكننا نعيش في سوق منفلت. لا توجد بنوك ولا جهة تضبط العمل. كلنا نعمل على أعصابنا".

أحمد أبو محسن تاجر من جنوب القطاع تحدث عن التناقض الحاد في السوق، إذ تختفي السلع الأساسية بسبب ضعف القدرة الشرائية وتراجع الواردات، فيما تظهر سلع كمالية لا يشتريها أحد. يوضح: "الناس تريد أرزًا وسكرًا وزيتًا، لكن على الرفوف تجد عطرًا وشوكولاتة وأجهزة محمولة لا تطعم جائعًا. إنها مفارقة اقتصاد منهار".

من جانبه، يتحدث المختص الاجتماعي نور إسليم عن خسائر غير مرئية سببتها الأزمة، منها انهيار شبكات الثقة بين الأقارب نتيجة الشراء بالدّين، وتزايد الخلافات العائلية، وتحول السيولة إلى لغة للبقاء، على حد تعبيره. يقول: "مع غياب النقد، تآكلت الروابط الاجتماعية بوتيرة لم أر مثلها من قبل". وهذه الشهادات لا تضيء جانبًا إنسانيًا فحسب، بل تكشف التشظي الكامل الذي أصاب البنية الاقتصادية والاجتماعية بمجملها.

اقتصاد يتحرك ببطء شديد

اختفاء النقد من الأسواق لم يترك أثره على الأفراد فقط، بل أصاب حركة التجارة بالشلل. فقد تراجع استيراد السلع الأساسية بنسبة تراوحت بين 40 و60 في المئة خلال العامين الأخيرين، وفق تقديرات تجار الجملة. ومع عدم قدرة التجار على شراء البضائع بالدفع المباشر، تقلصت دورة العرض، وأصبحت متاجر كثيرة تبيع بالقطعة أو نصف الكمية.

في المقابل، ظهرت سلع كمالية في الأسواق رغم أنها بلا معنى في اقتصاد ينهار. هذا التناقض يفسره التجار بوجود قنوات غير منسقة لإدخال البضائع، وبسعي بعض الوسطاء لتحقيق أرباح سريعة من خلال سلع خفيفة وسهلة التهريب، فضلًا عن ضعف الرقابة الاقتصادية بسبب الحرب. النتيجة كانت سوقًا مشوهة، تتكدس فيها الكماليات بينما تختفي الأساسيات.

المشهد الأعمق.. حين يتحول الاقتصاد إلى أداة سياسة

لا يرى الخبراء الاقتصاديون هذه الأزمة بمعزل عن السياق السياسي، الخبير أحمد أبو قمر يؤكد أن منع دخول النقد وتدمير النظام المصرفي ليسا مجرد نتائج جانبية للحرب، بل هما جزء من هندسة تجويع ممنهجة تستهدف إعادة تشكيل الاقتصاد الفلسطيني على قاعدة الندرة.

يقول أبو قمر إن غياب سلطة النقد وتدمير البنية المصرفية خلقا فراغًا ضخمًا مهد الطريق لتمدّد السلوكيات المالية غير الرسمية ولتضخم دور السوق السوداء. بهذا المعنى، لم يكن التكييش مجرد ظاهرة اقتصادية، بل كان نتيجة مباشرة لقرار سياسي يضبط إيقاع الحياة اليومية ويحدد قدرة الناس على البقاء.

الأرقام التقديرية المطروحة تكشف حجم الانهيار: خسارة ما يقارب 1.3 مليار دولار من القدرة الشرائية خلال عامين بسبب التكييش وحده، وتراجع التداول النقدي إلى أقل من ثلث مستواه قبل الحرب، وارتفاع متوسط الدين الأسري بنسبة وصلت إلى 75%، وانخفاض السيولة المتاحة لدى التجار بنحو 60%. ورغم أن هذه الأرقام تقديرية، فإنها ترسم اتجاهًا واحدًا لا لبس فيه: الاقتصاد توقف عن التنفس.

بعد عامين… هل تغيّر شيء؟

على الرغم من أن الاحتلال سمح بإعادة فتح عدد محدود من فروع البنوك في مناطق معينة، فإن ذلك لم يكن حلًا حقيقيًا. فقد عادت الفروع من دون إدخال شحنات نقد جديدة، ما جعل عودتها أقرب إلى إجراء صوري لا يغير من طبيعة الأزمة شيئًا.

العمولات تراجعت نسبيًا في بعض الفترات لتتراوح بين 22 و28%، لكنها تعود للارتفاع كلما عادت التوترات أو انخفضت كمية النقد في السوق. وحتى اليوم، يعتمد القطاع بشكل شبه كامل على أوراق نقدية قديمة ومتهالكة، بعضها فقد جزءًا من قيمته أو لم يعد صالحًا للاستخدام، ما يجعل دورة الاقتصاد نفسها مشوشة وغير مستقرة.

حرب طويلة وجبهة بلا صوت

ما شهدته غزة خلال العامين الأخيرين لم يكن شهيدان برصاص الاحتلال في مدينة الخليل مجرد أزمة سيولة طارئة، بل إعادة تشكيل كاملة للحياة الاقتصادية. فالتكييش، بكل ما يحمله من عمولات قاسية واستنزاف للمدخرات، لم يكن ظاهرة مالية عابرة، بل كان أحد وجوه الحرب نفسها. حرب تستخدم النقد باعتباره وسيلة للسيطرة، والندرة باعتبارها أداة سياسية، وتحويل القيمة إلى معركة يومية يخوضها كل مواطن.

اليوم، يقف الغزي أمام خيارين كلاهما مرّ: أن يدفع نصف ما يملك كي يحصل على نصف ما يحتاج، أو أن يترك أمواله محتجزة في حساب بنكي لا يمكن فتحه. وفي الحالتين، تستمر المجزرة المالية الصامتة في ابتلاع ما تبقى من حياة اقتصادية، بينما يتحول كل دولار يدخل القطاع إلى معركة صغيرة داخل حرب أكبر لا تزال مفتوحة.