بيسان

عصابات على أبواب بنوك غزة تمارس الابتزاز: المال مقابل الدور

المصدر تقارير
عصابات على أبواب بنوك غزة تمارس الابتزاز: المال مقابل الدور
محمد النعامي

محمد النعامي

محمد النعامي، صحفي من غزة

يشهد قطاع غزة منذ اندلاع الحرب وما رافقها من دمار واسع سلسلة من الأزمات المتلاحقة التي طالت مختلف جوانب الحياة اليومية للسكان. وفي ظل التدهور المستمر، برزت أزمات اقتصادية خانقة كان للقطاع المصرفي نصيب منها، إذ تعرض الغزيون لمشكلات متعددة شملت تدهور جودة العملة المتداولة واختفاء الكميات الصالحة منها من السوق، إضافة إلى إغلاق عدد من الحسابات البنكية وتعرّض أخرى لعمليات سرقة أو اختراق، فضلًا عن تعطل خدمات العديد من المحافظ الإلكترونية.

ورغم اعتقاد الغزيين أن انتهاء الحرب سيضع حدًا لسلسلة الأزمات التي أثقلت كاهلهم، فإن الواقع جاء مغايرًا تمامًا. فقد واصل الاحتلال منع دخول العملات إلى القطاع، وأبقى قدرات البنوك وسلطة النقد تحت قيود مشددة عطّلت عملها بشكل شبه كامل.

 ظهور عصابات منظمة تستولي على أدوار المواطنين أمام البنوك وتقوم ببيعها مقابل مبلغ مالي، وهو ما يجعل الوصول إلى الخدمات البنكية شبه مستحيل بالنسبة لعدد كبير من السكان الذين يبحثون عن أبسط حقوقهم المالية.

ومع استمرار هذا الشلل، ظهرت أزمات جديدة في عمل المصارف داخل غزة، ما ضاعف من المعاناة وعمّق الصعوبات في وجه الغزيين، بعد أن كانوا يتطلعون إلى استعادة الحد الأدنى من الحياة الطبيعية بعد أشهر طويلة من الحرب والمعاناة.

ومع العودة الجزئية لعمل بعض فروع البنوك الفلسطينية، رغم الدمار الواسع الذي لحق بالعديد من مقراتها خلال الحرب، بدأ آلاف المواطنين في غزة يتوافدون يوميًا إلى أبواب هذه الفروع في محاولة لحل مشكلاتهم المتراكمة والمتعلقة بحساباتهم البنكية بعد أكثر من عامين من التعطيل.

عصابات الأدوار

مع هذا الزحام الكبير، برزت ظاهرة جديدة تمثلت في ظهور مجموعات منظمة تستولي على أدوار المواطنين أمام البنوك وتقوم ببيعها مقابل مبلغ مالي، وهو ما يجعل الوصول إلى الخدمات البنكية شبه مستحيل بالنسبة لعدد كبير من السكان الذين يبحثون عن أبسط حقوقهم المالية.

وتعمل هذه العصابات بطريقة منظمة، إذ يعمد أفرادها إلى حجز أكبر عدد ممكن من الأدوار الأولى أمام فروع البنوك من خلال توزيع أشخاص يتولى كل منهم تسجيل أكثر من دور عند مداخل البنك.

ويبدأ نشاطهم منذ ساعات الليل، حيث يحتلون قوائم الانتظار قبل وصول المواطنين، ثم يعرضون هذه الأدوار للبيع عبر منصات التواصل الاجتماعي.

ويُطلب من الراغبين في الوصول إلى شباك البنك دفع مبالغ مالية مرتفعة تصل إلى 100 دولار أو أكثر مقابل الحصول على دور، ما حوّل الحاجة الملحة للخدمة البنكية إلى فرصة استغلال مربحة على حساب معاناة الناس.

وفي المقابل، يجد المواطنون الذين يصلون إلى البنوك منذ ساعات الفجر أنفسهم عاجزين عن الحصول على دور، بعدما تكون جميع الأدوار قد حُجزت مسبقًا عبر هذه العصابات. وتُحتكر هذه الأدوار بشكل يومي لمن يدفع المقابل المالي، ما يجعل الوصول إلى البنوك بصورة طبيعية مهمة شديدة الصعوبة.

الانتظار والابتزاز

من جانبه، قال عبد الرحمن نصير إنه يحاول منذ أسبوعين الوصول إلى فرع بنك فلسطين وسط القطاع للحصول على دور، لكن محاولاته تبوء بالفشل يومًا بعد يوم بسبب سيطرة العصابات على قوائم الانتظار.

وأضاف أن أفراد هذه المجموعات خاطبوه صراحة بأنه "لن يتمكن من الدخول أو إنجاز معاملته إلا إذا دفع مبلغًا ماليًا مقابل الدور"، وهو مبلغ يعجز عن تحمله في ظل الظروف الاقتصادية القاسية.

وأشار نصير إلى أن هذا الواقع لا يخصه وحده، بل ينسحب على آلاف المواطنين الذين يصطفون يوميًا أمام البنوك ليواجهوا العقبة ذاتها.

وأضاف، في حديثه لـ"الترا فلسطين"، أنه قبل يومين فقط توجه إلى البنك حاملًا معه فراشًا ليقضي الليل هناك على أمل الحصول على دور. وقال: "ذهبت ورأيت كثيرين مثلي جاؤوا بالمفارش استعدادًا للمبيت، وكانت الصدمة أن بين المنتظرين نساء اضطررن للبقاء طوال الليل من أجل دور للبنك".

وأوضح أنه قضى تلك الليلة أمام باب البنك برفقة العشرات، بينما كان أفراد المجموعات التي تحتكر الأدوار متواجدين أيضًا منذ ساعات الليل. وبعد انتظام الدور في الصباح، فوجئ الجميع بأن أول نحو 50 دورًا كانت محجوزة مسبقًا لصالح هذه المجموعات، إضافة إلى دور خاص بالنساء، ما جعل دور المنتظرين (الرجال) معطلًا.

وتابع نصير: "انتظرنا حتى نهاية الدوام، وإلى أن أُغلقت أبواب البنك، دون أن أتمكن من إجراء معاملتي، وهي ببساطة فتح حساب جديد".

وأوضح عبد الرحمن أن هذا السلوك، إلى جانب ممارسات يومية مشابهة تشهدها مختلف جوانب الحياة في القطاع، يؤكد أن حالة العربدة والبلطجة التي تفشّت خلال فترة الحرب ما زالت آثارها حاضرة حتى اليوم.

خلال العام الأول للحرب، الاحتلال دمّر نحو 93% من فروع المصارف العاملة في القطاع.

أما أدهم بكر، فأكد أن معاناة المواطنين الذين يسعون لإجراء أي معاملة بنكية في غزة باتت لا توصف، مشيرًا إلى أن الوضع أصبح أكثر صعوبة دون وجود أي حل واضح.

وأضاف أن معاناة الناس تحولت إلى وسيلة رزق واستغلال بالنسبة لأشخاص خارجين عن القانون، موضحًا أن أي انفراج في الأزمة لا يبدو مرئيًا في الأفق القريب.

وأضاف في حديثه لـ"الترا فلسطين": "تخيل أن يُطلب مني لدخول البنك ودفع ثمن دور ما يعادل ثلث راتبي، أو أن أبقى أنتظر بلا نهاية، في ظل ارتباطي بعملي في القطاع الطبي الذي لا يسمح بالانتظار لساعات طويلة. من جهة أخرى، لا أستطيع توفير المبلغ المطلوب في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور جدًا، مع تكاليف المعيشة في الخيمة وأسعار الطعام والمواد الغذائية المرتفعة. كل هذا يحدث بينما تتحول المعاملة البنكية البسيطة إلى فرصة للابتزاز المالي، وهو وضع يجب ألا يستمر".

وأوضح أن الأشخاص الذين كانوا خلال الحرب يحجزون الأدوار أمام أجهزة الصراف الآلي ويبيعونها، هم تقريبًا نفس المجموعات التي تتحكم اليوم في أدوار الدخول للبنوك وإجراء المعاملات.

وأضاف أن المواطن العادي لا يتمكن في كلا الحالتين من الحصول على الخدمات البنكية إلا بعد دفع مبالغ مالية تفوق قدرته على التحمل، ما يعكس استمرار استغلال المعاناة اليومية لسكان القطاع.

ما الحل؟

ودعا أدهم إلى إيجاد حل عاجل لأزمة عصابات الأدوار التي تتسبب بتعطيل الخدمات البنكية، وطالب الجهات المعنية بتحمّل مسؤولياتها، مؤكدًا ضرورة أن تتولى الشرطة الفلسطينية تنظيم الأدوار أمام البنوك ووضع نظام واضح لآلية العمل البنكي يلتزم به الجميع دون استثناء. كما شدد على أهمية ملاحقة واعتقال المجموعات التي تعرقل سير العمل الطبيعي داخل البنوك.

وكان الاحتلال قد عمل على مدار عامي الحرب على تدمير شامل للقطاع المصرفي في غزة. وقال البنك الدولي إن الاحتلال خلال العام الأول للحرب تسبب في تدمير نحو 93% من فروع المصارف العاملة في القطاع. كما كشف البنك أن الاحتلال دمّر أيضًا 88% من مؤسسات التمويل الأصغر ومعظم الصرافين و88% من شركات التأمين.

ونشر معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) في نهاية عام 2024 أن البنوك الكبرى تعرّض معظم فروعها للتدمير الكامل وبشكل ممنهج، ما أدى لتوقفها عن العمل بالكامل منذ الأيام الأولى للحرب ولم تستطع استئناف خدماتها.