بيسان

اقتصاد الركام في غزة: كفاح للبقاء وسط فراغ قانوني و"بركان" صدمات نفسية

المصدر تقارير
اقتصاد الركام في غزة: كفاح للبقاء وسط فراغ قانوني و"بركان" صدمات نفسية
أنوار هنية

أنوار هنية

صحفية من غزة

فقد عاهد (39 عامًا) بيته الذي لم يسكنه سوى شهر واحد قبل إطلاق إسرائيل حرب الإبادة على غزة. فما إن دارت آلة الحرب حتى أحالت البيت كومة من الحديد والحجارة، ليتبدد حلم عاهد وأسرته بالاستقرار في البيت، ويتحول إلى مصدر لقوت يومهم، عبر بيع الحديد والحجارة المتبقية منه.

قطاع جمع الركام وبيعه شكل مصدر دخل مؤقت للعائلات التي فقدت مصدر رزقها في الحرب، إذ يصل دخل العمال في هذا القطاع إلى 200 شيكل يوميًا

أما الأربعيني "س" فلم تكفِهِ أنقاض بيته، إذ بقي في شمال القطاع ولم ينزح منه طوال عامين من الإبادة، رغم القصف العنيف والتجويع الشديد، ليجد نفسه مضطرًا، كما يقول، إلى استخراج الحديد والحجارة من بين أنقاض أي منزل يستطيع الوصول إليه، ليبيعها بثمن زهيد. هكذا أحدثت كل قطعة حديد وحجر فرقًا في وجبة أبنائه اليومية.

قطاع هام بحاجة لتنظيم

وظهر قطاع جمع الركام وبيعه في غزة كواحد من نتائج الحرب، حيث تنعدم فرص العمل، وتفشي الجوع نتيجة التجويع المنظم، "ليشكل مصدر دخل مؤقت للعائلات التي فقدت مصدر رزقها بسبب النزوح وتدمير المنازل" وفقًا للخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر، الذي أوضح أن دخل العمال من جمع الركام قد يصل إلى 200 شيكل يوميًا، ويكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية.

وقال أبو قمر، في حديث لـ"الترا فلسطين"، إن قطاع بيع الركام لا يحقق حاليًا سوى جزءٍ ضئيل من الفوائد الاقتصادية الممكنة، ولو تم تنظيمه واستثماره بشكل جيد، لتحقق منه عائدٌ يصل إلى ملايين الدولارات، مع خلق فرص عمل وفيرة للعائلات والعمال المتضررين من الحرب.

ويرى أبو قمر أن تنظيم هذا القطاع يتطلب تطوير آليات واضحة، تشمل إنشاء مصانع لإعادة تدوير الحديد والنحاس والألمنيوم والحجارة، وتوفير المعدات اللازمة، ما سيجعل من تجارة الركام نشاطًا أكثر استدامة على المدى الطويل، قد يستمر لخمس سنوات على الأقل بعد انتهاء الحرب، مع الحفاظ على فرص العمل والحد من الخسائر الاقتصادية.

ويضيف أن أسعار المواد المستخرجة تُحدد حسب العرض والطلب، فمثلًا النحاس والألمنيوم لهما أسعار مرتفعة نظرًا للحاجة الكبيرة لهما، في حين تختلف أسعار الحجارة حسب نوعها وحجمها ومدى إمكانية إعادة استخدامها.

 قطاع بيع الركام لا يحقق حاليًا سوى جزءٍ ضئيل من الفوائد الاقتصادية الممكنة، ولو تم تنظيمه واستثماره بشكل جيد، لتحقق منه عائدٌ يصل إلى ملايين الدولارات

ويؤكد أن هذا النشاط، رغم صعوباته، يُسهم في الاقتصاد الجزئي ويخلق شبكة من السوق المؤقتة، ويتيح للعديد من الأسر البقاء على قيد الحياة في ظل ظروف الحرب والحصار، مشيرًا إلى أهمية تدخل المؤسسات المحلية والدولية لدعم وتنظيم هذا القطاع لضمان استدامته وحماية العاملين فيه.

إشكاليات قانونية

هذه الجدوى الاقتصادية المرجوة محفوفة بإشكاليات قانونية، يشرحها المحامي أسامة المغني، مبينًا أن بيع شخص ما لمواد من منزل لا يملكه يعد خرقًا صريحًا للقوانين المحلية والدولية. أما العائلات المالكة للمنازل، فلها الحق في التصرف بمحتويات منازلها، بما في ذلك الحديد والحجارة، خصوصًا في الظروف الإنسانية الطارئة التي فرضتها الحرب والنزوح.

ويقول المغني، في حديث لـ"الترا فلسطين"، إن غياب قوانين محلية واضحة أو دولية تنظم هذا النشاط بشكل دقيق يجعل من الصعب التأكد دائمًا من أن بيع الركام لا ينتهك حقوق ملكية الآخرين، خصوصًا مع فقدان كثير من الناس لمنازلهم وأملاكهم، مما يؤدي إلى صعوبة تحديد مصدر المواد التي يتم بيعها.

رغم ذلك، يعترف المغني بأن هذا النشاط أصبح جزءًا من واقع البقاء للفئات الفقيرة التي تعتمد على هذه الموارد لتأمين لقمة العيش في ظل النزاع والحصار، في ظل غياب رقابة فعالة والجهات المختصة.

ويحذر المغني من المخاطر الجسدية والأمنية أثناء جمع الركام من أنقاض المنازل، مثل الانهيارات المفاجئة للأنقاض، وسقوط الحديد والحجارة، أو وجود مخلفات متفجرة من الحرب، ما قد يعرض العاملين والعائلات إلى إصابات خطيرة.

ويؤكد أن الجهات المحلية والمنظمات الإنسانية تتحمل مسؤولية توفير التوعية والإرشاد والإشراف لتقليل هذه المخاطر وحماية المدنيين أثناء ممارسة هذه الأنشطة.

بركان من الصدمات النفسية

وتؤكد المختصة في الصحة النفسية والمجتمعية أسماء الشريف أن جمع الحديد والحجارة من البيوت المدمرة يصنف ضمن الأعمال شديدة الخطورة، لكن المأساة الممتدة التي يعيشها الناس في غزة، وانعدام فرص العمل ومصادر الدخل المستقرة، دفع الكثير من أرباب الأسر إلى الانخراط في هذا العمل الخطير.

وتقول الشريف، في حديث لـ"الترا فلسطين"، إن العاملين في هذا القطاع يواجهون تحديات نفسية غير مسبوقة، إذ يعملون وسط ركام يخفي تحت طبقاته جثثًا لشهداء وألغامًا قد تنفجر في أي لحظة، وكل ذلك من أجل توفير احتياجات أسرهم الأساسية في ظل الغلاء وانهيار الاقتصاد.

وتشدد الشريف على أن الحرب تترك ندوبًا نفسية عميقة لدى العمال في مثل هذا القطاع، سترافقهم لسنوات، "كأنهم يعيشون في بركان من الصدمات النفسية والانفعالات الحادة، فمن جهةٍ المخاطر التي تحف مثل هذه الأعمال، ومن جهة أخرى حاجتهم لتأمين لقمة العيش، وكل ذلك وسط تفشي الجوع والنزوح وانعدام الأمان".

الحرب تترك ندوبًا نفسية عميقة لدى العمال في مثل هذا القطاع، سترافقهم لسنوات، كأنهم يعيشون في بركان من الصدمات النفسية والانفعالات الحادة

وتحذر من أن الزيادة في أعداد العمال الذين يلجأون لهذا النوع من الأعمال، قد يرافقها ارتفاعٌ في الاضطرابات النفسية داخل المجتمع، مثل الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة والقلق والوسواس القهري، وهي اضطرابات بدأت تظهر بوضوح على الرجال والنساء وحتى الأطفال.

وتضيف أن الحياة في العراء، أو في مراكز الإيواء، أو داخل الخيام، تزيد من عمق هذه الجراح النفسية، بينما تتردد عشرات الحالات يوميًا على ما تبقى من المراكز النفسية المتضررة، في محاولة للحصول على الحد الأدنى من الدعم.

وتعتقد الشريف أن الحاجة إلى خدمات الدعم النفسي والاجتماعي أصبحت ملحّة أكثر من أي وقت مضى. وتدعو إلى استمرار تقديم الدعم النفسي وتكثيف البرامج التثقيفية للعمال، خصوصًا أولئك الذين يعملون في قطاع الركام، باعتبارهم من أكثر الفئات عرضة للصدمة النفسية في غزة.