على مدى عامين من الحرب على غزة، كانت البنية التعليمية هدفًا أساسيًا لآلة الإبادة الإسرائيلية؛ فدمّر الاحتلال كافة المؤسسات التعليمية من جامعات وكليات، إلى جانب استهداف كوادر التدريس والطواقم الأكاديمية، ما أدى إلى تعطّل التعليم لآلاف الطلبة. وترتّب على ذلك ضياع فرص التعليم الجامعي أمام شريحة واسعة من الشباب، وحرمانهم من بناء مستقبلهم الأكاديمي والمهني.
لا يعمل الاحتلال على استهداف الغزيين من خلال منظمة "المجد أوروبا" فقط؛ بل أسّس عدة جهات بعضها بالتعاون مع عصابات متعاونة معه، مثل عصابة "أبو شباب".
هدِف الاحتلال من تدمير كافة مناحي الحياة في غزة، وعلى رأسها التعليم، إلى جعل القطاع غير قابل للحياة، ودفع سكانه للهجرة، وبالأخص شريحة الشباب. وخلال الأشهر الأخيرة من الحرب، يحاول الاحتلال المضي في مخطط التهجير عبر مشاريع تسعى لإخراج أعداد كبيرة من الطلاب الفلسطينيين من القطاع بحيث لا يعودون إليه مرة أخرى.
تمكّن الاحتلال من خلال بعض المؤسسات التي أنشأها وموّهها تحت مسميات وهمية من استقطاب أعداد من سكان غزة وتهجيرهم إلى دول أخرى، مع مصادرة وثائقهم الفلسطينية ومنعهم من العودة. ومن بين هؤلاء طلاب، كان هناك من سجّل في إحدى المؤسسات التي كانت تدعمها "مؤسسة المجد أوروبا".
تهجير صامت
استهدفت مؤسسة المجد طلابًا ومرضى وعالقين، وفرضت عليهم مبالغ تتراوح بين 1500 و2700 دولار، مع خداع المسافرين حول وجهات سفرهم؛ حيث كان يتم إبلاغهم في البداية بأنها الوجهة المطلوبة، ثم تُبلّغهم لاحقًا أثناء الرحلة بأن السفر سيكون إلى جنوب أفريقيا أو إندونيسيا أو ماليزيا. وتعتمد المؤسسة على المدفوعات بالعملات الرقمية غير القابلة للتتبع.
جاء إطلاق موقع المؤسسة بالتزامن مع مصادقة الكابينت الإسرائيلي على مقترح وزير الجيش يسرائيل كاتس بإنشاء "مديرية التهجير"، المكلفة بتنظيم الانتقال الطوعي لسكان غزة إلى دولة ثالثة، بالتنسيق مع جهات دولية وتحت إشراف مباشر من المستوى السياسي في دولة الاحتلال.
وفي منتصف شباط/ فبراير 2025، نشرت صحيفة هآرتس وثيقة تشير إلى أن منظمة "المجد أوروبا" تُدار فعليًا من داخل مديرية الهجرة الطوعية، وهي غير مسجلة رسميًا لا في ألمانيا ولا في القدس، وترتبط بشخص يحمل الجنسية الإسرائيلية.
وفي 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، اتهمت السفارة الفلسطينية في جنوب أفريقيا المنظمة بأنها "جهة مضللة استغلت المأساة الإنسانية في غزة، وخدعت العائلات الفلسطينية وجمعت أموالًا، ونظمت سفرها بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة".
وعقب ذلك، أصدرت وزارة الخارجية الفلسطينية بيانًا حذّرت فيه من الوقوع فريسة "شبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير"، مؤكدة عزمها ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية بحقها.
خداع الطلبة
ولا يعمل الاحتلال على استهداف الغزيين من خلال "المجد أوروبا" فقط؛ بل أسّس عدة جهات وشبكات أخرى، بعضها بالتعاون مع عصابات متعاونة معه، مثل عصابة "أبو شباب". وقد تصاعدت هذه المحاولات بشكل ملحوظ خلال الأشهر الأخيرة من الحرب.
وإلى جانب مخطط التهجير، برزت عمليات احتيال تستهدف الطلاب في غزة، تهدف إلى استغلالهم وسلب أموالهم عبر خداعهم وإيهامهم بإمكانية الدراسة في جامعات بالخارج. ويقوم المحتالون بإقناع الطلاب بإرسال أموال، قبل أن ينقطع أي تواصل بينهم وبين الجهات التي تمارس هذه العمليات الاحتيالية.
نشطاء يحذرون من التعاطي مع جهات خارجية تحت عنوان تسهيل السفر، موضحين أن هذه العروض غالبًا ما تكون إما مرتبطة بالاحتلال.
ومن بين الطلاب الذين تعرضوا لعمليات احتيال تستهدف طلاب غزة، الطالب محمد القطْري، الذي كان يسعى للسفر ودراسة الجامعات في أوروبا أو كندا أو الولايات المتحدة. وبحسب روايته، بذل القطري جهودًا كبيرة وتواصل مع العديد من مكاتب السفر والواجهات المعنية بشؤون الطلاب، في محاولة لتأمين فرصة حقيقية للدراسة بالخارج.
وقال محمد القطْري، لـ"الترا فلسطين"، إنه تواصل مع شخص يقدّم نفسه كمسؤول في مكتب للسفر والسياحة والحج، تبيّن لاحقًا أنه ينتحل اسمًا وينسب نفسه لعائلة غزية معروفة في هذا المجال، ما أكسب حديثه نوعًا من الثقة. وأضاف أن هذا الشخص زعم أنه مقيم في جمهورية مصر العربية، وأنه سيتمكن من تسجيله في جامعة بكندا، بالإضافة إلى ترتيب سفره عبر معبر رفح عند افتتاحه، أو معبر كرم أبو سالم، وكذلك تأمين سفره من مطار القاهرة إلى كندا.
وتابع: "بالفعل وثقت بهذا الشخص، وعندما أرسلت له أوراقي، طلب مني مبلغ 2600 دولار، وأن يتم الدفع عبر منصة Binance باستخدام العملات الرقمية. ومع عدم خبرتي في هذا المجال لم أتمكن، فطلب مني إرسال المبلغ إلى حساب تابع لمكتب سفريات في دولة عربية أخرى غير مصر، وهو ما شكّل أول علامة تحذير، إلا أنني قمت بإرسال المبلغ".
وتابع الطالب قائلًا: "بعد إرسال المبلغ، زعم أنه سيتواصل معي بعد إتمام تنسيق السفر، وأنني سأستلم الأوراق من داخل غزة، وستبدأ الأمور بمجرد تيسير إجراءات السفر، وسأكون من أوائل المسافرين خارج القطاع. ومع تكرار تواصلي معه وسؤالي عن تطورات الأمور، فوجئت بأنه قام بحظري. وبعد ذلك تواصلت مع أفراد من العائلة التي كان ينتحل اسمها، ونفوا نفيًا قاطعًا أن يكون هذا الشخص على صلة بهم أو فردًا من عائلتهم، مؤكدين أن أعمالهم متوقفة منذ بداية الحرب".
وبهذا خسر محمد المبلغ الذي جمعه بصعوبة كبيرة للسفر وبدء حياة جديدة، بعد أن فقد منزله وتعليمه ومستقبله داخل قطاع غزة. وأوضح أنه كان يخطط للانطلاق من جديد عبر السفر، لكنه وجد نفسه مستغَلًا بهذه الطريقة.
للاحتيال أنواع..
من جانبه، قال الطالب زياد العواودة إنه بعد تخرجه وحصوله على معدل امتياز في الثانوية العامة، كان يحلم بدراسة الطب البشري. إلا أن تدهور التعليم في قطاع غزة وتدمير الجامعات والمشافي التعليمية دفعه للتفكير في الدراسة بالخارج. وبدأ العواودة خلال الأسابيع الأخيرة بالتواصل مع الجامعات والبحث عن منح دراسية لبدء مسيرته التعليمية في الطب خارج القطاع.
وأضاف العواودة، في حديثه لموقع "الترا فلسطين": "من خلال بحثي عن منح وفرص دراسية للطب في الخارج، تواصلت مع مسؤول صفحة تُدعى 'رابطة الطلاب العرب في أوكرانيا'، وانتقل التواصل لاحقًا من فيسبوك إلى واتساب، حيث طلب مني إرسال بياناتي الشخصية وصورة لشهادتي وجواز سفري، لكنني أخبرته أنني لم أتمكن من إصداره بعد، بالإضافة إلى معلومات أخرى، بحجة مساعدتي في التسجيل للمنح الدراسية".
وتابع: "وفيما بعد، طلب مني إرسال مبلغ 1600 دولار أميركي إلى حسابه البنكي كجزء من تكلفة التسجيل في إحدى الجامعات الأوكرانية، موضحًا أن هناك مبلغًا إضافيًا قد يصل إجماله إلى 3000 دولار. كما أخبرني أنه مقابل كل طالب آخر أستقطبه للمنحة، سيتم خصم 100 دولار من المبلغ المطلوب مني، وعندما طُلب مني استقطاب طلاب آخرين لتخفيف المبلغ عني، أدركت أن الأمر يحمل طابعًا ربحيًا أو احتياليًا".
وأكد الطالب أنه بعد أن أثارت شكوكه، تواصل مع طلاب درسوا في أوكرانيا وشاركهم تفاصيل ما طُلب منه، فأجمعوا على أن القضية تمثّل عملية احتيال. وأضافوا أن مثل هذه المنح الدراسية متوقفة حاليًا في أوكرانيا، وأنه حتى لو كان الأمر حقيقيًا، فإنه لا يمكن قبوله في هذه المنح دون تقديم جواز سفره أولًا، وهو ما لم يقدمه بعد.
ومن جانبه، أكد الناشط محمد دحروج أن سكان قطاع غزة يقفون ضحايا لسيل من محاولات النصب والاحتيال والخداع. وأوضح أنه خلال العامين الماضيين، تعرض الغزيون لمحاولات سرقة الحسابات البنكية بطرق متعددة، بالإضافة إلى محاولات سرقة روابط الدعم واختراق المحافظ الإلكترونية.
وأضاف أن الجهود الأخيرة تركزت بشكل خاص على استهداف الطلاب الراغبين في السفر والدراسة في الخارج.
وأكد دحروج أن هذه المحاولات الاحتيالية تتخذ أشكالًا متعددة، حيث توهم الطالب والراغب في السفر بإمكانية السفر، وأن الأمر يتوقف على دفع مبلغ مالي معين ليتمكن من بدء حياة جديدة والدراسة في الخارج. وأضاف أن معظم هذه العروض تكون وهمية بالكامل، صادرة عن أشخاص وجهات وهمية لا أساس لها في الواقع.
وأضاف دحروج، في حديثه لموقع "ألترا فلسطين"، أن هؤلاء المحتالين يعتمدون بشكل أساسي على برامج الذكاء الاصطناعي لتأسيس واجهات ومعلومات لشركات ومكاتب وهمية، وإنتاج تصاميم متعلقة بالسفر.
وأوضح أن استغلالهم يرجع إلى انقطاع سكان قطاع غزة عن متابعة التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي لمدة عامين، بسبب الحرب والنزوح والتشرد والمجاعة، حيث لم يتوفر للكثيرين منهم الإنترنت بشكل كافٍ. واستغل المحتالون هذه النقطة لخداع جزء كبير من الراغبين في السفر.
وحذر الناشط دحروج من التعاطي مع أي من هذه الجهات أو إرسال أي أموال لجهات خارجية تحت عنوان تسهيل السفر، موضحًا أن هذه العروض غالبًا ما تكون إما مرتبطة بالاحتلال، حيث يكون السفر نحو جهات ودول لا مستقبل فيها، أو صادرة عن محتالين لا يمتلكون القدرة على مساعدة الطلاب وتمكينهم من السفر والتسجيل في الجامعات بالخارج.