بيسان

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

المصدر تقارير
مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب
محمد نشبت

محمد نشبت

كاتب صحفي من فلسطين

لم يكن المشهد الذي رافق استئناف العملية التعليمية في غزة يشبه أي عودة مدرسية شهدها القطاع من قبل. فبعد عامين من حرب محمولة على الدمار والجوع والنزوح، تبدو المدارس كأنها تنهض من بين الرماد بجهد مضاعف، فيما يجرّ معها الأطفال والطلاب ذكريات الانقطاع الطويل وفوضى الحياة في الخيام. بين جدران مهدّمة وساحات ما تزال مأوى للنازحين، تحاول غزة استعادة أحد أهم ملامح حياتها: المدرسة، بوصفها مؤسسة للمعرفة وملجأ نفسيًا كان دائمًا أوسع من حدود الصف.

أطفال الصفوف الأولى يعودون إلى مقاعدهم بعد عامين من الانقطاع، بينما يعجز كثير منهم عن القراءة والكتابة بالمستوى الطبيعي لأعمارهم

عودة تدريجية وأسئلة بلا أجوبة

ومع وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر 2025، أعلنت الأونروا ووزارة التربية والتعليم العالي عن خطة "تدريجية" لعودة التعليم. غير أن التصريح بدا مجرد بداية لسلسلة من الأسئلة العصيّة التي يطرحها المشهد: أين سيجلس الطلاب؟ وكيف يمكن لمدرسة تحوّل جزء من فصولها إلى غرف نوم لعائلات نازحة أن تعود إلى وظيفتها الأولى؟ وكيف يمكن أن يباشر الأطفال حياتهم في مبانٍ لم يبقَ منها سوى هيكل إسمنتي، وأكوام حديد ملتفة على بعضها؟

تبدو الأرقام أكبر من قدرة أي خطة على احتوائها. فقد دُمّرت أكثر من 179 مدرسة حكومية بالكامل، وتعرّضت مئات المدارس الأخرى لأضرار شديدة، فيما خرجت 95% من مدارس القطاع عن الخدمة خلال الحرب. ويشير تقرير صادر عن المكتب الإعلامي الحكومي إلى تعرّض 668 مبنى مدرسيًا لقصف مباشر، وتدمير 165 مؤسسة تعليمية كليًا و392 جزئيًا. ونتيجة ذلك، حُرم أكثر من 785 ألف طالب من حقهم في التعليم لعامين متتاليين. أما الخسائر البشرية، فهي الأخرى فادحة: استشهاد أكثر من 18 ألف طالب وطالبة، إضافة إلى أكثر من 830 معلمًا وكادرًا تربويًا و193 أكاديميًا وباحثًا، وهو ما جعل القطاع التعليمي يفقد جزءًا كبيرًا من عموده البشري، إلى جانب المباني والمختبرات والمرافق.

المدرسة… صفّ صباحي ومأوى ليلي

وفي قلب هذا المشهد، تظهر معاناة المرحلة الأساسية التي غالبًا ما تغيب عن العناوين الكبيرة. فأطفال الصفوف الأولى يعودون إلى مقاعدهم بعد عامين من الانقطاع، بينما يعجز كثير منهم عن القراءة والكتابة بالمستوى الطبيعي لأعمارهم. معلمون يتحدثون عن طلاب في الصف الرابع لا يتقنون تهجئة كلمات بسيطة، وعن أطفال فقدوا سلوكهم الدراسي ونظام يومهم، ويميلون للشرود أو الخوف عند سماع أي صوت مرتفع. هذه الفجوة التعليمية والنفسية تشكّل تحديًا هائلًا لا يقلّ خطرًا عن فقدان المباني.

وفي الوقت نفسه، تحوّلت المدارس إلى مواقع مزدوجة: تعليم صباحًا ومأوى ليلًا. تُغسل الممرات قبل دخول الطلاب، وتُرفع فرشات النوم من زوايا الصفوف، ويضع المعلّمون خطوطًا وهمية تفصل بين الحياة المؤقتة للنازحين وبين ما يُفترض أنه يوم دراسي. لكن الفاصل يتلاشى سريعًا مع حركة اليوم، إذ يتداخل ضجيج الطبخ وغسيل الملابس وأصوات الرُّضّع مع محاولات الطلاب التركيز في درسهم الأول بعد انقطاع طويل.

شهادات من قلب الفقد والتعليم المعلّق

في إحدى المدارس غرب غزة، تجلس أم لؤي قنيطة قرب حقيبة ابنها الراحل. تشير إلى دفتر مفتوح تركه قبل استشهاده، وتقول: “لؤي كان يراجع على ضوء البطارية، كان يحلم يدخل الهندسة. يوم نتائج التوجيهي… حسّيت كأن الصوت اللي كنت بستناه ما وصل. الكل فرح إلا أنا. النتيجة كانت إله… بس الصوت انقطع قبل أوانه. الجيش ما خلّى إلنا فرحة، لا بيت ولا ضنى”.

وفي مدرسة أخرى أُقيمت فيها عشرات الخيام في خانيونس، تُظهر هدى أبو حسني قلمًا وممحاة كانت ابنتها تحتفظ بهما استعدادًا للتوجيهي. تقول: “كانت بدها تصير دكتورة وتداوي الناس. راحت البنت… وظلّ القلم. لما أعلنوا النتائج، تمنّيت لو تقول لي إنها نجحت ولو بمعدل بسيط… بس تكون موجودة”.

أما تهاني دحلان، التي نجا ابنها لكنه فقد عامين من عمره الدراسي، فتقول: “عاصم مش شهيد، الحمد لله، بس كأنه حياته وقفت. ضاع منه عاشر وحادي عشر. كل يوم أسأله: جاهز ترجع؟ يقول جاهز… بس وين نرجع؟ مدرسة؟ خيمة؟ صفّ؟ ما في جواب”. تخشى أن يصل إلى التوجيهي “وهو لسه بيدوّر على كرسي”.

سؤال النازحين الأكبر: أين نذهب؟

في فناء مدرسة غرب دير البلح، تكاد نسرين البيطار تختصر مشهد العودة كله بجملة واحدة: “راما بدها تتعلم… بس إذا رجعوا المدرسة للطلاب، إحنا وين نروح؟ الخيمة إلنا… والصف إلهم”.

مرة أخرى، تسلّط شهادات النازحين الضوء على التحدي الأكبر والأكثر تعقيدًا: وجود آلاف العائلات داخل المدارس. تحاول إدارات المدارس تخصيص فترات للتعليم، لكنها لا تستطيع منع الضجيج الطبيعي للحياة اليومية، ولا الأسئلة المستمرة: “إلى أين نذهب؟”، “هل يُعقل أن نُرمى إلى الشوارع؟”، “أين البديل؟”. في غياب أي خطة إسكان طارئة، تبدو هذه الأسئلة أكثر واقعية من أي إعلان رسمي عن بدء العام الدراسي.

وزارة التربية والتعليم أمام مهمة شاقة

يقول مجدي برهوم، الناطق باسم وزارة التربية والتعليم، إن ما جرى للمدارس والجامعات لم يكن ضررًا جانبيًا، بل "استهدافًا مقصودًا لبنية التعليم". ويوضح أن الوزارة تجد نفسها اليوم أمام معركة جديدة لا تقل قسوة، معتمدة على صفوف مؤقتة داخل الخيام، ومنصّات رقمية بديلة، ومدارس افتراضية تحاول سدّ الفجوة. لكنه يؤكّد أن هذه الوسائل ليست أكثر من إجراءات إسعاف أولي، "لا يمكن أن تُعيد للتعليم حضوره الطبيعي داخل الصفوف".

غير أن التحدي الأكبر لم يعد مقتصرًا على المدارس. فالحرب دمّرت أيضًا جامعات غزة الكبرى: مباني الجامعة الإسلامية تحوّلت إلى ركام، ومجمّعات الأزهر والأقصى بفرعيها أصيبت بأضرار جسيمة، بينما تلاشت مختبرات الطب والهندسة والعلوم الصحية بالكامل في بعض الفروع من الجامعات الرئيسية. مكاتب أكاديمية، مكتبات رقمية، أرشيفات بحثية، كلّها اختفت تحت عشرات الأطنان من الإسمنت. جامعات تحتاج اليوم إلى سنوات من إعادة البناء قبل أن تستعيد وظيفتها الأساسية.

ومع إعلان نتائج الثانوية العامة صباح الخميس في الثالث عشر من الشهر الجاري، ظهرت مخاوف جديدة بين الأهالي: هل يبقى أبناؤهم للدراسة داخل غزة؟ أم يبحثون عن فرصة خارجها؟ يصف كثير من الأهالي النجاح هذا العام بأنه "نصف فرح"، إذ يترافق مع سؤال معلّق: ما مستقبل التعليم الجامعي في قطاع بلا بنية جامعية؟

تقول سمية مهنا، والدة رغد مهنا التي حصلت على 95%: "بنتي بدها هندسة… بس وين تدرسها؟ الجامعة مش جاهزة، والمختبرات ما في. خايفة أتركها تسافر… وخايفة تضل". بينما يقول علاء الصالحي: "بنتي بدها طب. برّا بدها معجزة لتطلع.. وجوّا المختبرات مدفونة. النجاح صار بداية الخوف مش نهايته".

تتوسع المخاوف لتشمل آلاف العائلات التي تعي أن مستقبل التعليم العالي في غزة لن يعود في سنة أو سنتين، بل في مسار طويل يحتاج إلى دعم دولي وإعادة بناء جامعي شامل، وهو ما يجعل مصير جيل كامل معلّقًا بين خيارين أحلاهما مُرّ.

التعليم… فعل مقاومة

وبين مدارس تحاول أن تُعيد فتح أبوابها، وجامعات تبحث عن شكلها الجديد بعد الدمار، وطلاب ينتظرون مستقبلًا غير واضح، تقف غزة أمام اختبار موازٍ لاختبار الحرب: كيف تعيد بناء جيل بكامله؟ وكيف يمكن للصفّ أن يحلّ محلّ الخيمة، وللكتاب أن يعود إلى يد طفل لم يعد يعرف معنى انتظام الدوام؟

ورغم كل هذا الثقل، تعود غزة إلى التعليم. تعود بخطى مرتجفة، لكنها ثابتة. يعود الطلاب بقلوب مثقلة، لكن بعيون ثابتة. وتعود الأمهات إلى تعليق حقائب صغيرة على جدران الخيام، كأنها طقوس حماية من عالم ينهار. في هذا السياق، يبدو التعليم في غزة أقلّ من مؤسسة رسمية، وأكثر من فعل مقاومة… مقاومة للحرب، وللنسيان، وللفكرة القائلة بأن المعرفة يمكن أن تُدفن تحت الركام. هكذا تفتح غزة دفاترها المحترقة من جديد، وتحاول أن تصنع من الفوضى بابًا للعودة إلى الحياة، ولو من تحت الأنقاض.