يصدح صوت النشيد الوطني الفلسطيني من داخل مدرسة الكمالية التاريخية المشيدة من الحجارة في العصر الأيوبي قبل 788 عامًا، فيما يردد الأطفال" تحيا فلسطين عربية حُرَّة، المجد والخلود للشهداء الأبرار"، ثم يدخلون القاعات التاريخية العريقة، لتلقي الحصص الدراسية، دون أن يمتلكوا من مقومات التعليم إلا سبورة وبعض الدفاتر.
تُعدُّ مدرسة الكمالية المدرسة الوحيدة تقريبًا الباقية من العهد الأيوبي والناجية من حرب الإبادة في شرق غزّة، وقد خرجت آلاف الأجيال، لكنها لم تكن فعالة منذ سبعينات القرن الماضي، حتى أُعيد إحياؤها بعد حرب الإبادة
تجلس الطفلة سلوى العتال، الطالبة في الصف الرابع، برفقة ما يزيد عن 30 طفلًا، في القاعة الرابعة، تحدثنا عن "فرحتها التي لا توصف" بالعودة إلى الدراسة، مشيرة إلى أنها أنهت الصف الثالث الابتدائي في خيمة خلال نزوحها إلى جنوب القطاع أثناء الحرب.
وبعدما دمر الاحتلال مدرستها خلال الحرب، التحقت سلوى بالمدرسة الكمالية، وتقول إنها "تطمح للتفوق وحصد الدرجات المميزة"، لكنها في الوقت ذاته تفتقد مدرستها القديمة، وصديقاتها، اللواتي كانت تدرس معهن، ويلعبن سويًا.

والطفلة سلوى واحدة من 300 طالب وطالبة التحقوا بالتعليم في المدرسة الكمالية، 150 منهم في المرحلة الابتدائية، والبقية في المرحلة الثانوية، وهم يتلقون تعليمهم في فترتين صباحية ومسائية.

أما الأم النازحة عائشة لبد فلم تتمكن من تسجيل أطفالها في مدرسة الكمالية التاريخية، تقول: "قبل حرب الإبادة الإسرائيلية، كان يدرس أطفالي في مدرسة النصر الأساسية، لكن منذ الدقائق الأولى للحرب توقف الفصل الدراسي وتعمد الاحتلال الإسرائيلي استهداف المدارس".
وتضيف: "على أثر الدمار والقصف الإسرائيلي نزحنا عدّة مرات، إلى أن وجدنا الاستقرار نوعًا ما، ودفعت أطفالي للذهاب إلى النقاط التعليمة لكي يبقوا مواظبين على دراستهم ومستواهم التعليمي".
وخلال حرب الإبادة، شكلت النقاط التعليمية بديلاً مؤقتًا عن المدارس التي تحولت إلى مراكز لإيواء النازحين، فضلاً عن أن الاحتلال أدخلها في قلب بنك أهدافه. وتشير عائشة إلى أن التعليم تقلص من سبع ساعات يوميًا، إلى أربع أو خمس حصص في ساعتين فقط، كما أنه يقتصر على أربع مواد أساسية.

وبعد وقف إطلاق النار، استؤنف التعليم في مدرسة الكمالية للمرة الأولى منذ سبعينات القرن الماضي. وفي ساحة المدرسة، يقف الطلبة بانتظام في طابور صباحي، ويلقون الإذاعة المدرسية تحت إشراف الطاقم التعليمي ومديرة المدرسة.

وتقول مديرة مدرسة الكمالية، فيداء الإسي، إن "العودة للدراسة من بين الركام والدمار هو رسالة أمل وصمود لفلسطين، وبالتحديد لمدينة غزَّة، التي تجرعت قسوة الحرب ومرارة التجويع الإسرائيلي على مدار الأعوام المتتالية".
وتضيف: "تُعدُّ مدرسة الكمالية المدرسة الوحيدة تقريبًا الباقية من العهد الأيوبي والناجية من حرب الإبادة في شرق غزّة، وقد خرجت آلاف الأجيال وكان لنا شرف إعادة إحيائها بتاريخها المجيد".

وتابعت أن تدمير الاحتلال لمعظم المدارس شرق قطاع غزة، دفع المجتمع المحلي لتسليم مبنى قلعة الكمالية التاريخية إلى وزارة التربية والتعليم، لتتحول إلى نقطة تعليمية ثم إلى مدرسة رسمية.

وتؤكد الإسي أن الطلاب والطالبات كادوا ينسون أساسيات القراءة والكتابة، بسبب الانقطاع المتواصل الذي خلفته حرب الإبادة الإسرائيلية، واستدركت: "لكن الطاقم التدريسي وعائلات الطلبة يبذلون جهودهم في المواصلة والمتابعة".
وفي عام 2023، بلغ معدل الأمية 2.1% من إجمالي السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفقًا لتقرير جهاز الإحصاء الفلسطيني، ما يجعل المجتمع الفلسطيني من المجتمعات الأقل أمية في المنطقة العربية.
وبحسب وزارة التربية والتعليم، فقد دمر الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 172 مدرسة حكومية في قطاع غزة، بينما تعرضت 118 مدرسة حكومية أخرى لتدمير جزئي بالقصف والتخريب، فضلاً عن أكثر من 100 مدرسة من مدارس "الأونروا" تعرضت للقصف والتخريب.
وفي شرحها لتاريخ المدرسة الكمالية، تقول الباحثة التاريخية حنين العمصي، إن المدرسة أنشئت في عام 1237 ميلادي، وهي الوحيدة التي بقيت من بين عدد كبير من المدارس التي عرفها قطاع غزة على مر العصور، مبينة أنها خصصت منذ إنشائها لنشر تعاليم الشريعة الإسلامية، وتميزت بقبابها.

وأوضحت العمصي أن مدرسة الكمالية ذُكرت في المخطوطات العثمانية، بينها رواية المؤرخ الشيخ عثمان الطبّاع. وبحسب ما ينقله الطبّاع، كانت الكمالية تقوم على تلّة مرتفعة خلف السوق القديم من جهته الغربية، عند الزقاق الذي يقود اليوم إلى دير اللاتين. وقد كانت آنذاك مؤسسة دينية مزدهرة تجمع بين المسجد والمدرسة، تضم منارة وتُقام فيها الصلوات وتُدرَّس علوم الحديث وسائر المعارف الشرعية.

وأضافت العمصي أنه مع بدايات القرن الثالث عشر الهجري تلاشت مبانيها تدريجيًا، فاختفى المسجد واندثرت المنارة وضاعت الأوقاف التي كانت تموّلها، قبل أن يتحوّل موقعها إلى قطعة أرض مفتوحة. ورغم زوالها المادي، بقي الاسم التاريخي "الكمالية" متداولاً بين سكان المنطقة حتى اليوم.
وتشير إلى أن المدرسة يطلق عليها أيضًا اسم المدرسة الكاملية، موضحة أن اسمها جاء نسبة إلى الملك الذي أنشأها، الكامل أبو الفتح ناصر الدين محمد ابن الملك العادل سيف الدين بكر بن أيوب.