بيسان

الخيام التي لا تحمي أحدًا… شتاء غزة معركة جديدة

المصدر تقارير
الخيام التي لا تحمي أحدًا… شتاء غزة معركة جديدة
محمد نشبت

محمد نشبت

كاتب صحفي من فلسطين

في الليالي الأولى من هذا الشتاء، لم يكن القصف هو الصوت الذي أيقظ النازحين في قطاع غزة، بل خيط ماء تسلّل من سقف خيمة، ثم آخر، قبل أن تتحول الأرض إلى بركة طين تبتلع الأغطية والفرش والأطفال معًا. لم يكن المطر زائرًا موسميًا؛ كان إعلانًا جديدًا لانهيار ما تبقّى من قدرة البشر على الاحتمال.

في مساحة قماشية ضيقة لا تحفظ خصوصية ولا تمنح أمانًا، يعيش مئات آلاف الفلسطينيين الذين فقدوا منازلهم خلال عامين من حرب الإبادة، ووجدوا أنفسهم مضطرين إلى العيش في خيام بالية تجاوزت عمرها الافتراضي بسنوات، تحت سماء لا ترحم وأرض لا تحتمل.

النازح في غزة يدخل الشتاء بلا مأوى آمن، بلا دفء، بلا مياه نظيفة، بلا صرف صحي، بلا غذاء كافٍ، وبنظام صحي هشّ منهك أصلًا. وفي ظل غياب أي تدخل دولي واسع، يتحول المطر إلى امتحان للنجاة لا يمرّ منه أحد بلا جراح.

إلى أن تُفتح المعابر لمستلزمات الإيواء، وتتحرّك قوافل المساعدات، وتبدأ إعادة الإعمار، سيواصل الناس شدّ خيامهم كأنّهم يشدّون حياتهم نفسها

خيمة بدل بيت

منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى توقيع اتفاق وقف الحرب في خريف 2025، دُمّرت مئات آلاف المنازل، وانتهت حياة كاملة تحت الركام.

تقول الإحصاءات الحكومية إن ما يزيد عن 300 ألف منزل أصبح غير صالح للسكن، وإن ما يقارب 90% من البنى التحتية المدنية في القطاع إمّا دُمّر أو خرج عن الخدمة: شبكات المياه والصرف الصحي، الطرق، محطات الضخ، وحتى برك تجميع مياه الأمطار التي كانت تشكّل خط الدفاع الأول في الشتاء.

لكن هذه الخيمة ليست حلًا إنسانيًا مؤقتًا كما يجب أن تكون، بل عبءٌ إضافيّ يُفرض على النازحين يومًا بعد يوم. ومع مرور عامين على الحرب، أعلنت الجهات الرسمية أن نحو 93% من الخيام أصبحت غير صالحة للسكن. تقول الأونروا إن لوازم إيواء شتوية تكفي لمليون إنسان مكدّسة في المستودعات خارج القطاع، ممنوعة من الدخول بقرار إسرائيلي.

بدوره، يقول مدير المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، إسماعيل الثوابتة، إن القطاع يعيش وضعًا "هو الأخطر منذ عقود"، مؤكدًا أن أكثر من 288 ألف أسرة تعيش في خيام بالية تجاوزت عمرها الافتراضي، وأن القطاع بحاجة إلى 300 ألف خيمة وبيت متنقل لتأمين الحدّ الأساسي من السكن.

ويضيف: "الاحتلال يماطل في إدخال مستلزمات الإيواء، ويترك العائلات في العراء تحت الأمطار. الناس تواجه البرد والطين بلا أي حماية حقيقية".

الخيام المبتلة… وجوه تواجه الشتاء بلا حماية

داخل إحدى الخيام في وسط القطاع، يقول أحمد النتيل: "بعدما أغرقت مياه الأمطار خيمتنا، لقيت نفسي مع زوجتي وأطفالي نطفو فوق بركة. ما عرفت أنقذ مين أولًا… الخيمة ولا الأولاد. كل شيء حوالينا كان مبلولًا".

مشهد مشابه يتكرر مع كل منخفض جوي: الأرض تتحول إلى طين، الأفرشة تغرق، البطانيات تصبح أثقل من أن تُحمل، والبرد ينهش الأطفال وكبار السنّ.

تسهر العائلات الليل كلّه وهي تحاول رفع المتاع عن الأرض أو تجفيف ما يمكن إنقاذه. النوم يصبح رفاهية لا يملكها أحد. وفي مناطق كثيرة، لا يتهدّد المطر الخيام فقط، بل يجرف معها المياه العادمة التي تتسرب من شبكات منهارة، مما يحول الخيام إلى بيئة خصبة للأمراض والأوبئة.

في مخيّم المغازي، يقف الشقيقان أسعد والحسين منذ الفجر حاملين قطع نايلون مهترئة يحاولان تثبيتها فوق سقف الخيمة. الخيمة نفسها ليست جديدة، بل "بقايا خيمتين وثلاث شوادر قديمة" جمعوها بعد الحرب وصنعوا منها مأوى مربع الشكل. كل موجة رياح تفتح ثغرة جديدة، وكل شتوة تفضح وهم "الاستقرار المؤقت".

يقول أسعد وهو يدفع الماء بعصا خشبية خارج الخيمة: "من ليلة كاملة وإحنا نصرف المي لبرا، ما ضلّ مكان جاف… لا فرش ولا حرام ولا حتى قطعة قماش نغطي فيها الأولاد".

في زاوية أخرى من القطاع تجلس فاطمة ظاهر قرب بركة لتجميع مياه الأمطار، حيث تعيش منذ ما يقارب العام في خيمة نُصِبت فوق أرض منخفضة. تقول بصوت يحمل تعبًا طويلًا: "من سنة وإحنا في نفس المكان، وما حدا التفت إلنا. كل جهة بتيجي تتصوّر قدّام الخيام النظيفة اللي على الشارع، يعطوهم خيمة جديدة، وإحنا اللي وراهم ما حدا سأل عنا".

بالنسبة لها، المشكلة لم تعد في الحرب وحدها، بل في الطريقة التي تُوزَّع بها المساعدات. فغياب قاعدة بيانات موحّدة جعل توزيع الخيام خاضعًا للعشوائية والمعارف الشخصية. تضيف: "في ناس وصلهم أكتر من خيمة وناس مثلنا ما وصلتنا ولا مرة، لأنه ما إلنا حد ولا مؤسسة تعرفنا". تدرك فاطمة أن خيمتها معرضة للغرق مع أول منخفض جوي، لكن لا مكان آخر تذهب إليه: "البركة من جهة، والخيام فوق بعضها من جهة… وين نروّح؟".

ولا يختلف المشهد في بقية المخيمات المؤقتة إذ يشير أحمد بشير، مسؤول أحد مخيمات النزوح في المناطق الفاصلة بين دير البلح وخانيونس، إلى أن ما يجري هو "حرب ما بعد الحرب". ويقول إن "الناس هنا خاضت حرب الصواريخ، واليوم تخوض حرب البرد والطين. الاحتلال منع دخول الخيام والنايلون والكرفانات، والناس اضطرت تخترع مأوى من بقايا البلاستيك وأقمشة متهالكة".

يضيف: "كل خيمة تحتاج ترميمًا أو استبدالًا، وكل عائلة تقريبًا عندها قصة مع المطر. أطفال ينامون بملابس مبلولة، كبار سنّ لا يجدون دواء ولا تدفئة، وأمهات يحاولن حماية أطفالهنّ بقطع قماش لا تصدّ بردًا ولا مطرًا".

بين الدمار والمطر: البلديات تواجه موسم شتاء بلا بنية تحتية

يصف المتحدث باسم بلدية غزة، حسني مهنا، الوضع في المدينة بأنه "كارثي بكل المقاييس"، مشيرًا إلى أن البنية التحتية تضررت بنسبة تتجاوز 85%. ويقول: "دمّر الاحتلال أربع برك رئيسية لتجميع مياه الأمطار وأكثر من 15 ألف متر من شبكات التصريف. هذا يعني أننا نواجه خطر غرق مناطق واسعة مع أول منخفض".

ويحذر من آلاف الخيام المقامة حول برك الأمطار والتي قد تنهار أو تُغمر بالمياه، خاصة في المناطق المنخفضة التي فقدت منظومة تصريف الأمطار بالكامل.

في خان يونس، يصف رئيس البلدية، المهندس علاء الدين البطة، الوضع بأنه "صعب جدًا إلى حدّ يفوق الوصف"، مشيرًا إلى أن المدينة تضمّ اليوم أكثر من 900 ألف إنسان، نصفهم تقريبًا يعيشون في خيام.

ويضيف: "آلاف الخيام على الساحل مهددة بالانجراف والغرق. الآليات متهالكة، قطع الغيار غير موجودة، والوقود شحيح. أي موجة مطر قادمة قد تتحول إلى كارثة إنسانية». ويشدّد: «إدخال المساعدات حقّ طبيعي… وليس مرتبطًا بأي حساب سياسي".

أما في دير البلح، فيصف رئيس البلدية نزار عياش الوضع بأنه "مأساة مفتوحة"، قائلًا إن "الخيام هنا لم تعد خيامًا… بل خليط من قماش ممزّق ونايلون جمعه الناس من الأنقاض. الأمطار الأولى وحدها أغرقت عشرات الخيام".

ويضيف: "منظومة تصريف المياه شبه منهارة. نخشى أن يغرق الناس في الخيام مع أي منخفض جديد، ولدينا نقص حادّ في الوقود والمضخات والكوادر".

الدمار الذي لا ينتهي… حين يصبح الشتاء جولة جديدة من النزوح

تشير أرقام وزارة الحكم المحلي إلى دمار هائل في شبكات المياه والصرف الصحي بأكثر من 700 ألف متر طولي لكل شبكة، وتدمير ما يزيد عن 3 ملايين متر من الطرق.

كما دمّر الاحتلال 725 بئر مياه و134 مشروعًا للمياه العذبة، واغتال 4 رؤساء بلديات، وقتل 176 موظفًا من العاملين في الخدمات. هذه الأرقام ليست أرقامًا باردة؛ هي ما يجعل المطر كابوسًا لا موسمًا، والغرق احتمالًا يوميًا، والنزوح حالة تتكرّر داخل النزوح نفسه.

الخيمة في غزة لم تعد غطاءً فوق رؤوس النازحين، بل صرخة قائمة على أربعة أوتاد صمود شعب لا يرحل، وعجز عالم لا يرى. هنا، طفل يستيقظ على بلل البرد، وأمّ تخيط المطر بشريط لاصق، ورجل يسهر الليل واقفًا كي لا يبتلّ جسد طفله، فيما مدن كاملة تقف على حافة الغرق.

وإلى أن تُفتح المعابر لمستلزمات الإيواء، وتتحرّك قوافل المساعدات، وتبدأ إعادة الإعمار، سيواصل الناس شدّ خيامهم كأنّهم يشدّون حياتهم نفسها؛ يسدّون الثقوب بقماش مهترئ، ويرفعون أطفالهم فوق مستوى الطين، لا لأن الخيمة تمنحهم نجاة… بل لأنهم يرفضون أن يبتلعهم اليأس.