لم تكن مرح عطا الله تتخيل أن فيديو قصير يصلها عبر هاتفها سيكون كفيلًا بإنهاء آخر خيط أمل يربطها ببيتها في منطقة الفالوجة شمال غزة. فبعد نزوحها إلى مدينة غزة بأيام قليلة في تشرين الأول/ أكتوبر 2024، ظهر المنزل في المقطع مدمّرًا بالكامل نتيجة قصف إسرائيلي.
تقول مرح: "رغم شدّة الانفجار، كان عندي أمل بسيط بأن يبقى جزء من البيت صالحًا للسكن، لكن لما شفت الفيديو حسّيت لأول مرة أني فقدت الأمان والملجأ".
وحين عادت مرح إلى الحارة التي كبرت فيها بعد وقف إطلاق النار في كانون الأول/ يناير 2025، وجدتها ركامًا صامتًا. تصف المشهد قائلة: "كان مرعبًا. كل الحارة مدمّرة. الحزن ما كان على الجدران، بل على الناس اللي راحوا".
وبين الركام، لمحت مرح كاميرا قديمة من التسعينيات اشتراها والدها بدافع شغفه بالتصوير وتوثيق لحظات العائلة. وجدت مرح الكاميرا معطلة لا تعمل، لكنها بالنسبة لها أغلى من أي شيء، ولذلك فهي لا تفارق حقيبتها حتى بعد انهيار وقف إطلاق النار وتجدد النزوح في الشهور الماضية.
يعود الناس في غزة إلى بيوتهم المدمرة، باحثين تحت أنقاضها عن أي شيء من ذاكرتهم، فبعض المقتنيات لا تقدر بثمن
وترى مرح في الكاميرا المعطلة "جرحًا جميلاً" يذكّرها بحياة اندثرت وبأهلٍ غيّبتهم الحرب، كما أنها تربطها بما تبقّى من جذورها. وتقول إن عثورها على هذه الكاميرا علّمها "أنه عندما يريد الله لشيء النجاة سينجو حتى لو من قلب الموت" وفق تعبيرها.
وأضافت: "يمكن لو كانت الكاميرا بتحكي، كانت اعتذرت لأنها لن تستطيع مواصلة التقاط الصور كما فعلت على مدار سنوات. لقد تركت لنا صورًا لحياة تتكرر".
ألبوم صور
كانت ميريهان الخالدي تظن أن نزوحها فجر أحد أيام تشرين الأول/ أكتوبر 2023 سيكون وداعًا قصيرًا لمنزلها الذي شيّدته في مدينة الزهراء مع زوجها بحبٍّ وتعب. خرجت على عجل دون أن تأخذ شيئًا سوى أمل العودة. لكنها لم تكن تعلم أن القصف الذي دمّر الأبراج المجاورة سيحوّل الحلم إلى ذكرى، والبيت إلى ركام.
تروي ميريهان: "أصدروا أمر الإخلاء تقريبًا الساعة السادسة صباحًا. خرجنا وابتعدنا قليلًا عن بيتنا، لأن هناك ثلاثة أبراج مهددة بالقصف. وعندما قصفوا الأبراج، خرجنا إلى رفح. كنت آمل أن أعود، لأن الزهراء دائمًا كانت آمنة".
لكن بعد ساعات قليلة وصلها الخبر الصادم: "سمعت أن الأبراج كلها سقطت، وبيتنا كان بينها. بقيت أيامًا لا أصدق، أبكي على الذكريات ولا أنام، خصوصًا أنني كنت وحدي مع طفلتي وزوجي كان خارج المدينة".
ومع إعلان وقف إطلاق النار مطلع العام الحالي، عادت ميريهان إلى الزهراء. حينها، وقفت أمام الركام تبكي بصمت، عاجزة حتى عن لمس الحجارة. تقول: "السقف كان منهارًا على البيت، لم أستطع إخراج أي شيء، فقط كنت أراقب وأبكي".
وتتحدث بأسى عن أكثر ما آلمها فقدانه: "ميداليات زوجي لاعب كرة القدم، بدلة زفافه، مسكة الورد التي جمعتها من الورود التي كان يحضرها لي في فترة الخطوبة، وهدايا الخطوبة. كل شيء كان غاليًا ذهب".
وبعد وقف إطلاق النار في شهر تشرين الأول/ أكتوبر، عادت ميريهان إلى الركام بحثًا عن أي شيء من الذاكرة، حتى لمحت شيئًا صغيرًا مغطى بالتراب. تقول: "اكتشفت أنه ألبوم صور عرسي. جلست أبكي وأنا أحمله، فقد كان ذكرى أجمل يوم في حياتي"، مبينة أنها وجدت الألبوم الثاني "متضررًا قليلًا"، فأخذت تلصق صوره وهي تبكي.
اليوم، تحتفظ ميريهان بألبوم الصور بعناية داخل حقيبة صغيرة ترافقها في كل تنقلاتها. تقول: "هذا أفضل شيء خرج من البيت. عندما أنظر إليه، يمنحني قوة ويجعلني أتأمل أنني سألتقي بزوجي وستعود أيامنا الجميلة".
كاميرات بداية الطريق
أما المصور الصحفي أحمد الدنف فلم يخرج من بيته المدمّر إلا بكاميراته التي بدأ بها حياته المهنية. يقول: "وقت قصف البيت كنت في مخيم الشاطئ أوثق مجزرة ارتكبها الاحتلال. لم أعلم بالقصف حتى اتصلت بي أختي لتخبرني بما حدث، وأن أمي ذهبت إلى البيت".
ويضيف الدنف: "كانت اثنتان من إخوتي في البيت، أما البقية فكنت قد نقلتهم منه في الليلة السابقة بسبب شدة القصف في المنطقة. وعندما وصلت شارع النصر، رأيت أمي وأخواتي راجعين من مستشفى الشفاء، وكانوا قد غادروا البيت قبل الاستهداف بعشر دقائق فقط".
بعد القصف، لم يتمكن أحمد من العودة إلى منزله، إذ تحوّل الحيّ إلى منطقة عسكرية مغلقة. يقول: "خرجنا من البيت بثيابنا فقط. كل شيء في البيت كان غاليًا عليّ. كل تفصيلة لها ذكرى عندي، لكن أكثر شيء افتقدته هو إحساس الأمان الذي كنت أجده فيه".
وبعد عام ونصف من تدمير بيته، انسحب جيش الاحتلال ودخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ. حينها، عاد أحمد إلى منطقته المدمرة وبدأ البحث بين الركام عن أي أثر يمكن أن يربطه بالماضي.
يقول: "أخذنا نفتّش عن أغراضنا، لكن كل شيء كان مدمرًا. وفجأة وجدت كاميراتي القديمة اللي كنت أستخدمها عندما بدأت عملي في التصوير. كان الغبار يغطيها، لكن عندما رأيتها شعرت أني استرجعت جزءًا من حياتي".
نظّف أحمد الكاميرات بعناية واحتفظ بها. يقول مبتسمًا: "هذه الكاميرات رمز للأمل، ولكنها أيضًا رمز للجرح. كل ما أشوفها بتذكّر البيت كيف كان، وكيف بدأت التصوير، وكيف صرت". ويضيف: "لو الكاميرات بتحكي، كانت ستحكي كيف أننا شعب يحب الحياة لا الموت".