بيسان

رحلة جلب الحطب من وسط الخراب.. وجهٌ من وجوه الموت في غزة

المصدر تقارير
رحلة جلب الحطب من وسط الخراب.. وجهٌ من وجوه الموت في غزة
محمد النعامي

محمد النعامي

محمد النعامي، صحفي من غزة

آلاف الدونمات الزراعية في قطاع غزة تحوّلت إلى أراضٍ جرداء بعد أن كانت عامرة بالأشجار المثمرة، وحقول الزيتون والحمضيات، والمزارع والدفيئات الزراعية. فخلال عامين من الإبادة الجماعية، نفّذ جيش الاحتلال عمليات تجريفٍ وتدميرٍ ممنهجة طالت كل ما هو حي، تاركًا مشهدًا من الخراب الشامل لا يميّز بين بشرٍ أو حجرٍ أو شجر.

الأشجار المقتلعة تحوّلت إلى مصدرٍ للأخشاب التي يستخدمها المحاصرون بدلًا من غاز الطهي، بعدما كانت ندرة الأخشاب قد دفعت الناس إلى تكسير الأبواب وتقطيع الأثاث لاستخدامها في الطهي

وطالت عمليات التجريف الممنهجة المناطق الخضراء في رفح وخان يونس جنوب قطاع غزة، مرورًا بجحر الديك ومناطق وسط القطاع، وصولًا إلى شمال غزة، ما أدى إلى القضاء الكامل على البنية الزراعية ومنع المزارعين من إعادة زراعة أراضيهم، في محاولةٍ لتجويع السكان وحرمانهم من مصدر غذائهم الأساسي.

دمار هائل

ويؤكد مكتب الإعلام الحكومي أن الاحتلال دمّر 725 بئر مياه، و5,080 كيلومترًا من شبكات الكهرباء، و700 ألف مترٍ من شبكات المياه والصرف الصحي، وثلاثة ملايين مترٍ من الطرق، مبينًا أن التدمير طال أيضًا 94% من الأراضي الزراعية، ونتيجة لذلك تقلّص إنتاج الخضروات من 405 آلاف طن إلى 28 ألفًا فقط، ما تسبب بخسائر بلغت 2.8 مليار شيكل في قطاع الزراعة.

حطب غزة
مساحات شاسعة من كروم العنب لم يعد لها أثر

وقال المزارع بكر السعايدة إن الحرب دمّرت نتاج عقودٍ من العمل الزراعي، مبينًا أنهم بدأوا قبل 26 عامًا في إعداد أراضيهم وتنميتها حتى وصلت إلى ذروة إنتاجها ومردودها المادي، إلا أن الاحتلال دمّر كل ذلك في لحظة، إذ جرف الأراضي بالكامل ودمّر الآبار وأنظمة الري والطاقة الشمسية، محوّلًا المساحات الخضراء المثمرة إلى صحراء قاحلة بعد أن كانت عامرة بالحياة.

وأوضح السعايدة أن تجريف الاحتلال لأراضيهم دمّر نحو 28 دونمًا من أشجار الحمضيات، و6 دونمات من الزيتون، إضافة إلى أكثر من 10 دفيئاتٍ زراعية، وعددٍ من المنازل والآبار وحوز المياه الكبيرة التي كانت تغذي مئات الدونمات، وتمتد فائدتها إلى المناطق الشرقية من المنطقة الوسطى.

حطب غزة
أشجار معمرة اقتلعها الاحتلال في حملاته البرية

وأشار إلى أن كل هذا الدمار وقع خلال اجتياح الاحتلال للمناطق الشرقية من قطاع غزة، مؤكدًا أنه بالرغم من اتفاق وقف إطلاق النار، فإن الاحتلال لا يزال يسيطر على معظم هذه الأراضي، وكل من يحاول العودة لزراعتها أو الاقتراب منها يتعرّض لإطلاق النار المباشر.

منحة في محنة

تجريف الأراضي وتدمير الأشجار، الذي ترافق مع حصارٍ خانق ضمن الإبادة الجماعية، وجد فيه الناس في غزة حلًا مؤقتًا لواحدةٍ من أكبر أزماتهم. فالأشجار المقتلعة تحوّلت إلى مصدرٍ للأخشاب التي يستخدمها المحاصرون بدلًا من غاز الطهي، بعدما كانت ندرة الأخشاب قد دفعت الناس إلى تكسير الأبواب وتقطيع الأثاث لاستخدامها في الطهي.

ويواصل السعايدة حديثه قائلًا: "عندما أرى الرجال والأطفال يأتون إلى أطراف أرضنا بحثًا عن الحطب الذي خلّفته آليات الاحتلال، أشعر بأن شيئًا من غصّة فقدان الأرض قد تم تداركه".

وأوضح أن النازحين يستفيدون من الأشجار الذابلة والمقتلعة والمجرفة، وهو ما يخفّف جزءًا من معاناتهم اليومية في ظل الظروف الصعبة التي يعيشونها، مؤكدًا أنه لم يفكر للحظة في طلب أي مقابلٍ لتلك الأخشاب، فكل ما يتمناه هو أن تخفّ معاناة الناس الذين فقدوا كل مقومات الحياة.

ويذهب النازح سليمان ماضي مرتين أسبوعيًا إلى منطقة "محرّرة نتساريم" شمال مخيم النصيرات لجلب الحطب، حيث توجد كميات كبيرة من الأخشاب والأشجار المقتلعة، ليجمع ما يكفيه من الحطب لثلاثة أيام، ثم يعود به إلى خيمته لاستخدامه في الطهي والتدفئة.

نتساريم
مناطق زراعية في نيتساريم باتت قاحلة

وبيّن ماضي أن أسعار الحطب خلال الأشهر الأخيرة من الحرب وصلت إلى مستوياتٍ قياسية، حيث كان يُباع الكيلوغرام الواحد بنحو 15 شيكلًا، وهو مبلغ كبير جدًا، إذ كانوا يحتاجون يوميًا من 3 إلى 5 كيلوغرامات من الحطب للطهي، ما يعني أن تكلفة الحطب المستخدم في الطهي يوميًا تتراوح بين 45 و75 شيكلًا، في وقتٍ لا يملكون فيه أي مصدر دخل.

بلغ سعر كيلوغرام الحطب 15 شيكلاً

وقال: "لذلك، بعد انسحاب جيش الاحتلال، هرعنا إلى المناطق المجرفة وبدأنا بجلب الحطب والأخشاب لتخفيف معاناتنا وتوفير ما نحتاجه للطهي والعيش"، خاصةً أن كميات الغاز القليلة جدًا التي يسمح الاحتلال بدخولها بعد وقف إطلاق النار لا تصل إلى المواطنين.

رحلة مميتة

وبالرغم من وقف إطلاق النار، فإن عمليات الاستهداف من قبل قوات الاحتلال مستمرة بشكلٍ يومي، وقد أدت حتى الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 إلى استشهاد 241 شخصًا. وبين هؤلاء الشهداء مدنيون كانوا يحاولون الوصول إلى المناطق التي انسحب منها الاحتلال لجلب الحطب، في رحلةٍ محفوفة بالمخاطر والصعوبات.

حطب غزة
يسير الأطفال عدة كيلو مترات لجلب الحطب من المناطق المجرفة

ويوضح عبد الرحمن الجبالي أن معظم المناطق في غرب القطاع ووسطه قد نفد منها الحطب نتيجة جمعه من قبل أصحاب الأراضي والتجار والنازحين، ولذلك فإن المناطق الشرقية، وخاصة شرق طريق صلاح الدين، تظل المصدر الرئيسي للأخشاب، غير أن قربها من الخط الأصفر الذي شهد مواجهاتٍ مع قوات الاحتلال يجعل عملية جلب الحطب خطيرة وقد تكون مميتة في كثيرٍ من الأحيان.

أسعار الحطب خلال الأشهر الأخيرة من الحرب وصلت إلى مستوياتٍ قياسية، حيث كان يُباع الكيلوغرام الواحد بنحو 15 شيكلًا، وهو مبلغ كبير جدًا، إذ كانوا يحتاجون يوميًا من 3 إلى 5 كيلوغرامات من الحطب للطهي

وبيّن الجبالي أن المكان الذي يتجهون إليه لجمع الحطب قرب جحر الديك يطل على عدة مواقع للاحتلال، ما يجعلهم عرضةً مستمرة لإطلاق النار من جنود الاحتلال وآلياته وطائراته، إلى جانب القصف المدفعي، وقد شهدت المنطقة سقوط العديد من الشهداء، وبعض الجثامين لم يتمكن أحد من الوصول إليها.

وأضاف أن أهالي قطاع غزة يتحمّلون كل هذه المخاطر من أجل الحصول على الحطب الضروري لإشعال النيران وطهي الطعام.

وشدّد الجبالي على أن الخطر لا يقتصر على رحلة جلب الحطب فحسب، بل يمتد إلى آثار إشعال النيران داخل القطاع على مدار عامين، سواء بحرق الأخشاب أو القطع البلاستيكية أو الورق، ما ينتج عنه دخان ضار للغاية، وأحيانًا دخان سام عند حرق المواد البلاستيكية، مشيرًا إلى أن والدته تدهورت حالتها الصحية نتيجة مرض الربو، ومثلها الآلاف من النساء اللواتي يعانين، خاصةً مع غياب الأدوية.