بيسان

ماذا فعلت الحرب بنساء غزة؟

المصدر تقارير
ماذا فعلت الحرب بنساء غزة؟
محمد نشبت

محمد نشبت

كاتب صحفي من فلسطين

في غزة، لا تُقاس الحرب بعدد الغارات ولا بحصيلة الشهداء؛ بل بما تُحدثه في الجسد والذاكرة والعلاقة اليومية بالحياة. عامان من الإبادة الشاملة حوّلا الجسد الأنثوي إلى ساحة مواجهة مفتوحة: جسد يُنزَف دون دواء، يُجوَّع دون رحمة، ويُجبَر على إعادة خلق الحياة في فراغٍ يكاد يخلو من أبسط مقومات البقاء.

كثيرات يمتنعن عن الاستحمام لأيام طويلة بسبب شح المياه، ما يفاقم الالتهابات الجلدية والنسائية، بينما تختار أخريات النوم بملابسهن الكاملة تجنّبًا لأي انكشاف.

لم تعد الحرب حدثًا عابرًا، بل حالة وجودية تُعيد تحديد الدور والمكان والمعنى، وتدفع النساء إلى خطوط المواجهة من دون حماية، بوصفهن ضحايا وشاهدات، معيلاتٍ وقائداتٍ، يحملن ما تبقّى من الوطن فوق أكتاف أنهكها الخوف والعوز.

انهيار الحياة اليومية: جسدٌ محاصر بالاحتياجات الأساسية

منذ الأيام الأولى للحرب، تعطّلت معظم مفاصل النظام الصحي. أكثر من 60% من المستشفيات خرجت عن الخدمة كليًا أو جزئيًا، والولادات تُجرى في ظروف لا تشبه الحد الأدنى من الرعاية الصحية: عمليات قيصرية بلا تخدير، أدوات تُغسَل بالماء فقط، وأرضيات تُستخدم كغرف عمليات اضطرارية.

سيدة نازحة: أقف في طوابير المساعدات لساعات طويلة.. أكثر ما يوجعني هو نظرات أطفالي حين أدخل الخيمة ويدي فارغتان"

تشير وكالات الأمم المتحدة إلى أنّ نحو 46 ألف امرأة حامل يواجهن مستويات كارثية من الجوع، وأن أكثر من 155 ألف امرأة حامل ومرضع فقدن المتابعة الطبية، فيما لا تتوفر لقرابة 690 ألف امرأة وفتاة مستلزمات الدورة الشهرية. وفي الوقت الذي تعيش فيه معظم العائلات على وجبة واحدة في اليوم، يصبح الجسد الأنثوي محاصرًا بالجوع والعطش وانعدام الخصوصية، دون أي حماية أو استجابة دولية كافية لوقف النزيف المستمر.

الجسد المنكشف: الخصوصية كترفٍ مستحيل

في الخيام ومراكز الإيواء المكتظة، تتشارك مئات النساء حمّامات بلا أبواب. يغدو الاستحمام، وتغيير الملابس، وحتى تنظيف الجروح، مهمةً شاقة تُختبر فيها الكرامة كل يوم. كثيرات يمتنعن عن الاستحمام لأيام طويلة بسبب شح المياه، ما يفاقم الالتهابات الجلدية والنسائية، بينما تختار أخريات النوم بملابسهن الكاملة تجنّبًا لأي انكشاف.

في هذا المشهد، تصبح الخصوصية حلمًا مؤجّلًا، وتتحول الولادة إلى صراعٍ من أجل البقاء؛ آلاف النساء أنجبن على الأرض أو فوق بطانيات مبلّلة في خيام مغلقة، بينما أجرى ممرضون عملياتٍ قيصرية على ضوء الهاتف المحمول.

يقول المتحدث باسم مستشفى شهداء الأقصى، خليل الدقران، في حديث مع "الترا فلسطين"، إنّ الظروف التي مرت بها المرافق الصحية كانت "بالغة الخطورة على صحة الأمهات والأجنة"، ورغم ذلك "استطاعت الطواقم الطبية التعامل مع عشرات الحالات الحرجة وسط انقطاع الكهرباء ونقص الأدوية".

شهادات من قلب العتمة: نساءٌ على خط النار

تقول سلمى السيّد، التي كانت تعمل في مجال السكرتاريا وتدير مشروعًا منزليًا صغيرًا لإعداد الوجبات قبل الحرب، إنها كانت مع زوجها المدرّس يحلمان بحياة بسيطة ومستقبل آمن لأطفالهما.

 سيدة نازحة: "الخوف صار رفيقنا… لكنه لم يقتل ضميرنا بعد"

تروي، لـ"الترا فلسطين": "كل ما امتلكناه، حتى أدوات المطبخ التي كانت مصدر رزقي، اختفى تحت الركام. حاولت وزوجي أن نعيد مشروعنا بعد النزوح، لكننا فشلنا بسبب إغلاق المعابر، وندرة الطحين، وغياب المستلزمات، وانتشار المجاعة".

تتوقف لحظة وتتنفس بصعوبة قبل أن تضيف: "صار يومي جدولًا لطوابير الماء والتكايا. أبسط الأشياء — كغسل الملابس أو إعداد وجبة — تتطلب جهدًا مضاعفًا. هذا أرهقني نفسيًا وجسديًا. لم أعد كما كنت… الحرب غيّرتني بالكامل".

أما لمياء صفوت، فقد فقدت زوجها في غارة جوية، وبقيت وحدها مع ثلاثة أطفال. وتحكي بصوتٍ مبحوح: "أستيقظ كل صباح وأسأل نفسي: ماذا سأطعمهم اليوم؟ لم يعد لدينا بيت ولا مورد رزق. أقف في طوابير المساعدات لساعات طويلة، وغالبًا أعود بلا شيء. أكثر ما يوجعني هو نظرات أطفالي حين أدخل الخيمة ويدي فارغتان".

تقول إنها تقيس الزمن الآن بعدد الأيام التي استطاعت فيها تأمين الخبز أو الماء. وتضيف، في لقاء مع "الترا فلسطين": "المستقبل؟ صار كلمة بلا معنى… ما أفكر فيه فقط هو يوم آخر ننجو فيه".

في هذا الخراب، تتحول الحياة نفسها إلى شكلٍ من أشكال المقاومة. ليست مقاومةً بالشعار أو البندقية، بل بالإصرار على البقاء.

في خيمة أخرى تقيم هدى النباهين، وهي ممرضة نزحت من شمال القطاع إلى وسطه، وتعمل اليوم متطوعة في مركز طبي بلا راتبٍ ولا معدات.
تروي، لـ"الترا فلسطين": "نستقبل عشرات النساء يوميًا… مصابات أو حوامل أو يعانين أمراضًا مزمنة. أحيانًا أستخدم ضوء هاتفي أثناء المعاينة، ونغسل الأدوات بالماء فقط. لكني لا أستطيع التوقف… أشعر أني لو تركت عملي سأفقد آخر ما تبقى لي من معنى".

ورغم الإرهاق، تواصل يومها بين العيادة وخيمتها، وتقول بابتسامة خافتة: "الخوف صار رفيقنا… لكنه لم يقتل ضميرنا بعد".

أما فلسطين رضوان، النازحة الشابة، فتصف يومها بأنه "معركة متواصلة مع الطوابير". تحكي: "كل يوم أذهب إلى نقطة التوزيع وأتوه في زحمة النساء. كثيرًا ما أعود بلا خبز لأنني لم أعد أملك القوة الجسدية للدفع أو المزاحمة. جسدي لم يعد يحتمل، وهذا أثّر على صحتي ونفسيتي، وحتى على أهلي في الخيمة الذين ينتظرون عودتي".

وتقول إن لحظة العودة بلا طعام "أصعب من الجوع نفسه"، وإنها تشعر أحيانًا بأن الضعف صار سببًا إضافيًا للمعاناة في زمنٍ لا يرحم أحدًا.

هذه الشهادات، بكل ما فيها من تعبٍ وخوفٍ واشتباكٍ مع تفاصيل الحياة اليومية، ليست قصصًا فردية بقدر ما هي صورة ممتدة لمعاناة نساء غزة في مواجهة انهيارٍ كاملٍ للنظام الحياتي.

العنف الصامت: نساء بلا حماية ولا نظام دعم

مع النزوح المستمر وانهيار القانون، تضاعف الخطر على النساء اللواتي يتعرضن للعنف. تقول الأخصائية النفسية سلسبيل موسى إنّ المؤسسات "“لم تستطع تأمين حماية كافية للنساء المعنّفات، خاصة مع غياب جهات الإنفاذ وتعطل المتابعة بسبب التنقل الدائم".

وتشير إلى أن كثيراتٍ يعشن عزلة تامة، في وقتٍ تُغلق فيه أغلب المراكز النسوية وتنقطع الاتصالات والكهرباء. ومع ذلك، تواصل العاملات في القطاع الأهلي توثيق الانتهاكات وتقديم الإسعاف النفسي الأولي بوسائل بدائية وبلا موارد تقريبًا. إنه جهدٌ يجري في الظلال، لكنه يحفظ ما تبقّى من النسيج الاجتماعي من الانهيار.

ورغم هذا كله، تواصل نساء غزة الحفاظ على ما تبقّى من شكل الحياة. يشعلن أفرانًا طينية لإعداد الخبز، ينظمن صفوفًا تعليمية بدائية للأطفال داخل الخيام، يساعدن الجارات في رعاية المرضى، ويدوّن الشهادات لئلا تُمحى الذاكرة.

في هذا الخراب، تتحول الحياة نفسها إلى شكلٍ من أشكال المقاومة. ليست مقاومةً بالشعار أو البندقية، بل بالإصرار على البقاء، وترميم العائلة، وحماية ما تبقّى من النسيج الاجتماعي من السقوط.