دفنت وزارة الصحة في غزة، حتى السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي، 120 جثمانًا دون التعرّف على هويتها، بسبب طمس ملامحها والتشوهات الشديدة التي خلّفها التعذيب والتنكيل الإسرائيلي، وهي من بين 285 جثمانًا أفرج عنها الاحتلال الإسرائيلي في إطار اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.
وبينما تمكّن الأهالي من التعرف على 84 جثمانًا فقط، بقيت عشرات الجثامين بلا أسماء، ودُفنت تحت التراب مجهولة الهوية. ويقف خلوّ قطاع غزة من جهاز فحص الحمض النووي (DNA) أو أيّ معامل مختصة، عقبةً أمام تعرف عائلات الشهداء على جثامينهم.
عضو لجنة إدارة الجثامين في قطاع غزة، سامح حمد لـ"الترا فلسطين": الجثامين تُسلَّم للجانب الفلسطيني مجرّدة من أيّ بيانات تعريفية وتحمل أرقامًا فقط، ولا يوجد ما يدل على هوية أصحابها
تنكيل وتهتّك للأدمغة
يقول عضو لجنة إدارة الجثامين في قطاع غزة، سامح حمد، إن الجثامين التي تسلّمتها اللجنة من قبل الصليب الأحمر خلال الفترة الماضية تحمل آثارًا واضحة للتنكيل الشديد، مشيرًا إلى أن العديد منها تعرّض لـ"تهتّك في الأدمغة والجماجم"، ما يدل على تعرّضها لأوزان ثقيلة أو دهسٍ مباشر بعد الوفاة، وهذا يعقّد عمليات التعرّف عليها من قبل الأهالي.
وأوضح حمد في حديثٍ لـ"الترا فلسطين" أن الفريق المختص استخرج مقذوفاتٍ نارية من مناطق البطن والصدر والظهر، في دلالة على أن سبب الوفاة المباشر هو إطلاق النار من مسافة قريبة جدًا، مؤكدًا أن عمليات التنكيل وقعت بعد التصفية مباشرة.
وبيّن حمد أن بعض الجثامين كانت مقيّدة الأيدي والأقدام ومعصوبة العينين، في مشهدٍ يعكس حجم الانتهاك الذي تعرّض له الشهداء.
وقال حمد إن الجثامين تُسلَّم للجانب الفلسطيني مجرّدة من أيّ بيانات تعريفية وتحمل أرقامًا فقط، ولا يوجد ما يدل على هوية أصحابها.
وتابع، بحسب الاتفاق كان من المفترض أن يتم تسليمنا عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر بيانات ومعلومات حول هوية هذه الجثامين والأماكن التي أخذها منها، معربًا عن أسفه من أن الاحتلال لم يلتزم بذلك.
وقال: "لماذا يُطلب منا نحن الفلسطينيين توفير كافة بيانات ومعلومات جثامين أسرى الاحتلال، فيما نحن نستلم جثامين الشهداء بدون أي معلومات أو بيانات؟".
وواصل حمد حديثه: نطالب منذ فترةٍ طويلة بتسليمنا بيانات الشهداء أو حتى جزءًا من العينات البيولوجية، لكن الصليب الأحمر أخبرنا بأن الاحتلال يرفض هذه الطلبات.
وأكد حمد أن جميع الجثامين التي وصلت تحمل علاماتٍ تدل على أخذ عينات حمضٍ نوويٍّ منها، حيث وُجد بترٌ في أصابع اليد أو القدم، ما يشير إلى أن الاحتلال أخذ عيناتٍ وراثية قبل تسليم الجثامين، وكان من المفترض أن يسلّم البيانات وجزءًا من العينات، لكنه يتعمّد إخفاء هوية الشهداء لزيادة معاناة عائلاتهم.
وأشار حمد إلى أن وزارة الصحة الفلسطينية تفتقر إلى الإمكانات اللازمة لإجراء فحوصات الحمض النووي، سواء من حيث توفّر العينات أو وجود معامل متخصّصة أو أجهزة تحليل، مبيّنًا أن اللجنة استخدمت مسحات فحص كورونا كبديلٍ مؤقتٍ لأخذ العينات من الجثامين التي تم دفنها حتى اللحظة، وعددها 120، إلى حين توفّر معملٍ متخصص.
وأعرب حمد عن أسفه من أن هذه المسحات لا يمكنها الصمود طويلًا، فمدّة صلاحيتها قد تمتد من شهرٍ إلى أربعة أشهر فقط قبل أن تتعرّض للتلف.
وسيط محايد
من جانبها، قالت المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في قطاع غزة، أماني الناعوق، إن مسؤولية تحديد هوية الرفات تقع على عاتق السلطات، ولا يقدّم موظفو اللجنة الدولية أيّ توجيهاتٍ فنية إلا عند الطلب.
وأضافت الناعوق، في ردٍّ مكتوب على أسئلة "الترا فلسطين"، أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تشارك أيّ مخاوف لديها بشأن وضع الرفات البشري الذي يتم إعادته مباشرةً مع السلطات ذات الصلة، في إطار حوارها الثنائي وغير العلني، ولا تقوم بتناولها بشكلٍ علني، وذلك حفاظًا على خصوصية المعنيين ولصالح عملنا". وتابعت: "لا يمكننا الخوض في كثيرٍ من التفاصيل بحكم دورنا كوسيطٍ محايد، خاصةً وأننا لسنا طرفًا في الاتفاق".
وأوضحت الناعوق أنه بموجب القانون الدولي الإنساني، يجب على الأطراف السعي لتسهيل عودة الرفات إلى العائلات، وإجراء عمليات إعادة الرفات في ظروفٍ كريمة في جميع الأوقات، وفقًا لأفضل ممارسات ومعايير الطب الشرعي.
وقالت: "نُسهّل نقل الجثامين بصفتنا وسيطًا محايدًا، وينصبّ تركيز موظفي اللجنة خلال هذه العمليات على ضمان نقل الرفات بكرامة، ويبدأ دورنا عند استلام الرفات البشري من الجهة التي تقوم بتسليمه".
وأوضحت أن دور الصليب الأحمر في نقل جثامين الفلسطينيين من إسرائيل إلى سلطات الطب الشرعي في غزة يستند إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وبناءً على طلبٍ وموافقة الأطراف.
وأكدت أنه بموجب القانون الدولي الإنساني، للعائلات الحق في معرفة مصير أقاربها المفقودين، ويجب على الأطراف اتخاذ جميع التدابير الممكنة للبحث عن الجثامين وجمعها وإجلائها من تحت الأنقاض.
وأضافت: "ندرك ورود تقارير عن أوضاع جثامين الفلسطينيين التي نُقلت إلى غزة في الأيام الأخيرة، كما ندرك أن هذه الفترة صعبة للغاية على العديد من العائلات التي تنتظر بفارغ الصبر أخبارًا عن أحبائها المفقودين، وأن سماع هذه التقارير والتساؤل عمّا إذا كان أحد الجثامين يعود لفردٍ من العائلة أمرٌ مؤلم للغاية".
مقابر جماعية
يُشار إلى أن عملية دفن الجثامين الـ120 مجهولة الهوية لم تكن الأولى في قطاع غزة، فقد اضطرت وزارة الصحة إلى دفن نحو 100 جثةٍ مجهولة الهوية ومطموسة المعالم في مقبرةٍ جماعية بمدينة رفح خلال شهر كانون الثاني/ يناير 2024، كان الاحتلال قد استخرجها من عدة مقابر في أنحاء مختلفة من قطاع غزة قبل أن يعيد تسليمها.
المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في قطاع غزة: نُسهّل نقل الجثامين بصفتنا وسيطًا محايدًا، وينصبّ تركيز موظفي اللجنة خلال هذه العمليات على ضمان نقل الرفات بكرامة
وخلال حرب الإبادة الجماعية، سلّم الاحتلال في أوقاتٍ مختلفة عشرات الجثث لفلسطينيين قُتلوا خلال حملاته العسكرية في مناطق القطاع المختلفة، وجميعها دُفنت في مقابر جماعية بمدينتَي رفح وخان يونس جنوب القطاع، فيما لا يزال نحو عشرة آلاف شخصٍ في عداد المفقودين تعذّر البحث عنهم بسبب تعذّر رفع أنقاض المنازل المدمّرة.
وإلى حين سماح الاحتلال بدخول جهاز فحص الحمض النووي، يبقى ملف الشهداء المجهولين جرحًا مفتوحًا في قلوب عائلاتهم، ويظلّ التعرف عليهم ودفنهم بكرامة أمرًا مؤجّلًا بلا حلول.