بيسان

وجوه أنهكتها الحرب.. ملامح الغزّيّين تحت وطأة الصدمة

المصدر تقارير
وجوه أنهكتها الحرب.. ملامح الغزّيّين تحت وطأة الصدمة

حين ينظر غازي الخالدي (29 عامًا)، نازح إلى دير البلح، إلى المرآة بالكاد يتعرَّف على وجهه. يقول بصوتٍ خافت: "لم أتوقع أن تُغيّرنا الحياة بهذا الشكل؛ ليس فقط ملامح وجوهنا، بل أجسادنا وأرواحنا تغيّرت. نحن نسخ ممزّقة أنهكتها الحرب".

ويستعيد اللحظة التي تغيَّر فيها كل شيء: "كانت في الأسبوع الأوّل من الحرب، عندما فقدت أعز أصدقائي، ثم نزحنا إلى رفح. منذ ذلك الحين تغيّر سلوكي وتصرفاتي وأفكاري وحتى أحلامي. صرت مشتّتًا، وكل همّي اليوم أن أَمُرّ بسلام وأنهي معاناة تتكرر كل صباح".

الناس يقولون إن الحرب انتهت، لكن الحقيقة أنها ما زالت داخلنا. كل يوم نحارب الخوف والذاكرة

الوجوه من حوله تشبه وجعه. الجميع بات يحمل نفس ملامح الإنهاك: "الناس جميعهم مرهقون، ووجوههم مليئة بالأسى وحكايات الفقد والنزوح والنجاة المتكررة من الموت. صرنا أشباحًا تمشي في شوارع مدمّرة، نحمل أجسادًا متعبة وآمالًا ضائعة".

ويشير إلى أن ملامح الوجع لم تعد تُخفى؛ فهي تفضح ما في الداخل: "تجاعيد الوجه، السواد تحت العيون، كل ذلك نتيجة الأرق والتفكير واضطرابات النوم. التفكير في حياتنا وكيف فقدناها فجأة جعلنا فعليًا أشباحًا".

حتى اللغة اليومية تغيّرت، كما يقول: "عندما يسألنا أحدهم كيف حالك؟ الجواب الجاهز هو: 'لا شيء، لكني متعب.' هكذا نهرب من مواجهة الحقيقة." ويضيف بابتسامة باهتة: "حتى الابتسامات أصبحت مصطنعة، نضحك لطمأنة من حولنا أننا بخير، بينما نحن أبعد ما نكون عن ذلك".

يخشى غازي لحظة الصمت بعد الحرب، لأنها ستكشف عمق الجرح: "أتوقع أن يبدأ الألم الحقيقي بعد الهدوء. عندما نجلس مع أنفسنا ونتذكّر الناس الذين فقدناهم وبيوتنا ومستقبلنا، سنشعر بمعنى الحرب الحقيقي".

ويختم بصوت تغلب عليه الحسرة: "أخشى أن أرى صوري قبل الحرب؛ أخشى مواجهة أحلامي التي انقطعت فجأة. لم أفقد ملامحي فحسب، بل فقدت ابتسامتي وراحتي النفسية، وربما جزءًا مني لن يعود أبدًا".

في وجه إياد عزام (41 عامًا)، أب لخمسة أطفال ونازح إلى حيّ الرمال، يمكن قراءة الحرب قبل أن ينطق بكلمة. ملامحه التي غزتها تجاعيد مبكرة تحكي عن تعب دام عامين يبدو كأربعين سنة. يقول وهو يتأمّل صورة قديمة له: "من بعد السابع من أكتوبر، شعرت أنني كبرت أربعين سنة دفعة واحدة. حتى تعابير وجهي تغيّرت، صرت أرى رجلاً عجوزًا مكانَ نفسي".

يصف إياد ما جرى في غزة بأنه دمار طال الحجر والبشر معًا، فحتى الوجوه لم تسلم من الحرب: "غزة صارت كومة من رماد. الناس لم يعودوا يتعرّفون على بعضهم، تغيرت الملامح، وصارت الوجوه شاهدة على الوجع الذي في داخلها." في عينيه امتداد لمرارة جماعية، كأنّ ملامح الغزيين تحولت إلى أرشيف مفتوح للحزن.

ويرى أن الصدمة النفسية أصبحت ظاهرة للعيان: "العيون غائرة، والشحوب واضح، والتعب ملازمنا أينما ذهبنا". لا يحتاج الغزيون لغة لشرح ما في داخلهم، فـ"الوجوه صارت تتكلّم بدل الكلام"، كما يقول.

يحاول الأب إخفاء حزنه عن أطفاله لكنه يفشل في ذلك؛ فابنته الصغيرة تسأله دائمًا: "بابا، لماذا أنت دائمًا حزين؟" يجيب: "الأطفال باتوا يشعرون بوجعنا؛ عيونهم تسأل حتى لو لم نقل شيئًا. الحرب سرقت براءتهم كما سرقت ملامحنا".

كلما نظر إياد إلى صوره القديمة، يشعر أنه ينظر إلى شخص آخر: "كنت أبتسم بسهولة، وكان في وجهي أمل. اليوم عندما أرى نفسي أشعر أنني غريب عنها. الحرب لم تغيّر الشكل فحسب، بل تغيّر إحساسنا بذواتنا".

يؤكد أن كل بيت في غزة يحمل وجعه الخاص، وكل وجه فيه حكاية: "في كل شارع هناك قصة فقد، وفي كل حي دمعة لم تُجفف. الوجوه صارت شواهد على فصول الألم التي مرّت ولم تنتهِ".

ويختم إياد حديثه بصوت واهن: "الناس يقولون إن الحرب انتهت، لكن الحقيقة أنها ما زالت داخلنا. كل يوم نحارب الخوف والذاكرة. ربما وقفوا القصف، لكن الوجع ما زال يعمل فينا".

أما أماني شنينو (34 عامًا)، أم لثلاثة أطفال ونازحة في خانيونس، فلم تعد المرآة تعيد إليها ملامحها كما كانت. تتنهد قائلة: "تمرّ أوقات عديدة لا أجرؤ فيها على النظر إلى المرآة، وعندما أفعل أرى وجهي مرهقًا كأنه عاش أربعين عامًا إضافية. أشعر أنني نسخة متعبة مني، أحاول فقط أن أبدو قوية أمام أطفالي".

تصف أماني ملامحها الجديدة بأنها أصبحت "شاهدًا صامتًا" على ما مرّت به عائلتها: "بيتي تهدّم بالكامل، ومنذ عامين أعيش بين الخوف والنزوح. الحرب انتهت على الورق، لكني ما زلت أستيقظ على كوابيس القصف، أركض بأطفالي بين الركام كما كنت أفعل فعلًا." تقول ذلك بصوت مرتجف.

في الشارع ترى أماني انعكاس وجعها على وجوه الآخرين: "كل الناس تغيّروا. وجوه شاحبة، عيون تائهة، وتجاعيد سبقت العمر. حتى الأطفال لم يعودوا يضحكون كما قبل. وجوه غزة صارت متشابهة... كلها متعبة وتحمل ذاكرة حرب ثقيلة".

تتذكر اللحظة التي شعرت فيها أن ملامحها تغيّرت إلى الأبد، حين أُجبرت على النزوح في الأيام الأولى للحرب: "كنت أحمل أطفالي الثلاثة وأهرب نحو المجهول. حينها شعرت أنني فقدت شيئًا من نفسي، من ملامحي، من قدرتي على الفرح. بعدها لم أعد كما كنت، لا من الداخل ولا من الخارج".

تحاول أماني اليوم أن تبدو بخير أمام أبنائها، لكنها تعترف أن التعب النفسي لا يُخفى: "أحيانًا أجلس أيامًا بلا خروج، بلا طاقة لأي شيء. حتى الابتسامة أصبحت مجهودًا. وجهي يقول ما لا أستطيع قوله؛ يحمل تعب النزوح والخوف، لكني أبتسم رغمًا عني، محاولة صغيرة للنجاة".

وتبتعد صورها القديمة عنها كلما وقعت أمامها صدفة: "كلما نظرت إليها اشتقت لتلك الملامح المطمئنة. أفتقد نفسي قبل الحرب... تلك التي كانت تضحك بسهولة ولا تخاف الغد".

وعندما تُسأل إن كانت الحرب انتهت، تبتسم أماني ابتسامة واهنة وتقول: "الحرب لا تنتهي بوقف إطلاق النار؛ هي مستمرة فينا، في الكوابيس، في الذاكرة، في ملامحنا التي لم تعد كما كانت. نحاول فقط أن نهدّئ أرواحنا ونقنع أنفسنا أننا بخير، لنواصل الحياة من أجل أولادنا".

يؤكد محمد أبو شاويش، مدير معهد علاج الصدمة في غزة، أن آثار الحرب لا تنعكس على النفس فحسب، بل تُترجم أيضًا إلى ملامح الوجوه. يقول: "الوجه مرآة الجسد والنفس. وعند التعرّض المستمر للخطر، يفقد شيئًا من طاقته الحيوية، وتظهر عليه ملامح الإنهاك والجمود العاطفي، وتصبح العيون أقل بريقًا نتيجة التعرض المتكرر للمشاهد الصادمة وانخفاض الإحساس بالأمان. أي أن الوجوه تتعب كما تتعب النفوس لأنها تشاركها الذاكرة والمقاومة اليومية".

ويشرح أن الضغط النفسي المزمن يترك أثرًا جسديًا واضحًا: "التوتر المستمر ينشط الجهاز العصبي ويفرز هرمونات مثل الكورتيزول والأدرينالين لفترات طويلة، مما يضعف الدورة الدموية وتغذية الجلد، فتبدو الملامح شاحبة ومرهقة، ويزداد ذلك مع قلة النوم وفقدان الشهية والبكاء المتكرر".

أما الإحساس بأن البعض لم يعودوا يتعرّفون على أنفسهم بعد الحرب، فيصفه أبو شاويش بأنه نوع من "اضطراب الهوية أو الغربة عن الذات"، موضحًا أن "الإنسان بعد صدمات متكررة يشعر كأنه يرى نفسه من الخارج، وكأن ملامحه لم تعد تعبّر عنه. الحرب تغيّر الإحساس بالزمن وبالذات، فيغدو الوجه شاهدًا على ما فُقد من أمان ومعنى".

ويرى أن تغيّر ملامح الوجه هو نوع من "الذاكرة الجسدية للصدمة"، إذ "يحمل الجسد علامات الخوف والألم حتى بعد زوال التهديد، فتظهر في التجهم أو النظرة الحذرة أو التوتر العضلي حول العينين والفك، لأن الجهاز العصبي لا ينسى بسهولة".

ويشرح الطبيب أن الألم الحقيقي يبدأ بعد توقف القصف: "خلال الحرب ينشغل الإنسان بالبقاء أكثر من الشعور، لكن بعد الهدوء تطفو المشاعر المؤجلة: الحزن، والفقد، والكوابيس، والشعور بالفراغ. هذه الحالة تعرف في علم النفس بمرحلة ما بعد النجاة، حيث يبدأ الوعي في استيعاب ما حدث".

ويختم أبو شاويش بالتأكيد على أهمية توفير الدعم النفسي والاجتماعي: "الناس بحاجة إلى مساحات آمنة للحديث، وأنشطة فنية أو جماعية تُعيد الإحساس بالأمان. كما أن العناية بالنوم والتغذية والنشاط البدني تؤثر مباشرة على النفس والوجه معًا. فاستعادة الملامح تبدأ من استعادة المعنى الداخلي للحياة".