"كان شابًا وسيمًا وبنيته الجسدية قوية، وعاد إلينا جثةً هامدةً مشوّهةً وممزقةً"، يقول الشاب محمد حسين، واصفًا جثمان خاله الشهيد محمود عبد الشافي حسين، أحد الجثامين التي سلّمتها دولة الاحتلال الإسرائيلي في سياق صفقة التبادل بموجب اتفاق وقف إطلاق النار.
لا يوجد جثمانٌ واحدٌ يخلو من آثار تعذيبٍ شديدٍ أفضى إلى الموت، وهناك مؤشراتٌ قويةٌ على جرائم إعدامٍ ميدانيٍّ بحق عددٍ من الشهداء
وتعتقد أسرة الشهيد محمود أن الاحتلال أعدمه ميدانيًا بعد تعذيبه، فيقول ابن أخته محمد: "صُعقت عندما رأيت جثمانه، وكان مصابًا بعدة أعيرةٍ ناريةٍ في الوجه والقلب، وتحطُّمٍ في الجمجمة، ومنزوعَ العينين وبدون أسنان".
وسلّمت دولة الاحتلال 195 جثمانًا لشهداء فلسطينيين كانت محتجزةً لديه، ووفقًا لما أفادت به وزارة الصحة يوم الثلاثاء 28 تشرين الأول/أكتوبر، فقد تم التعرف حتى اللحظة على هوية 75 جثمانًا، فيما لا يزال العدد الأكبر مجهولًا جراء اختفاء ملامح الوجه والجسد، كنتيجةٍ للتعذيب والتشويه.
دُفن مرتان
ولشدة التشويه في جثة الشهيد محمود، اعتقدت عائلةٌ في مدينة دير البلح وسط القطاع أنه نجلها، فتسلّمته من مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوب القطاع، ودفنته، وأقامت مراسم عزاء، قبل أن يتعرف ابن شقيقته على جثمانه من صورٍ نشرتها وزارة الصحة، ما استدعى استخراج الجثة، وبعد التحقق منها، تسلّمها وأعاد دفنها في قبرٍ بمخيم البريج.
وتشير العلامات على الجثة المشوّهة إلى أن الشهيد محمود أُعدم ميدانيًا، ووفقًا لمحمد فإن الاحتلال أعدم خاله بعيارٍ ناريٍّ في الوجه، وآخر في القلب، ويُرجّح أنه تعرّض للتعذيب الشديد قبل إعدامه، ما تسبب في تحطيم جمجمته، وقلع عينيه وأسنانه.
ويميل محمد إلى هذا الاعتقاد، لأن خاله ظهر على شاشة القناة الـ12 الإسرائيلية بعد شهورٍ من اندلاع الحرب، وكان حيًا بكامل وعيه، رغم أنه ظهر مصابًا بعيارٍ ناريٍّ في ذراعه اليسرى.
وقتلت قوات الاحتلال غالبية أفراد أسرة الشهيد محمود في غارةٍ جويةٍ دمّرت المنزل فوق رؤوسهم في مخيم البريج، وأودت بحياة والده وجميع أشقائه وأطفالهم، فيما نجت والدته رغم إصابتها بجروحٍ بليغةٍ وبترِ أحد ساقيها، ويقول محمد إنه نفسه نجا من المجزرة مع بترٍ في أحد ساقيه.
جثامين مشوّهة
ويقول عضو "لجنة إدارة الجثامين"، مختصّ الأدلة الجنائية سامح حمد، إنه لا يوجد جثمانٌ واحدٌ يخلو من آثار تعذيبٍ شديدٍ أفضى إلى الموت، وهناك مؤشراتٌ قويةٌ على جرائم إعدامٍ ميدانيٍّ بحق عددٍ من الشهداء.

وأظهرت صورٌ نشرتها وزارة الصحة على موقع "صحتي" جثامينَ لشهداء معصوبي الأعين ومقيّدي الأيدي من الخلف، وعظامَ وأطرافَ بعضهم مهشّمة، وأحدهم لُفّ حبلٌ مشدودٌ حول رقبته، علاوةً على جروحٍ غائرةٍ في الوجه والبطن والصدر.

ومن المفترض أن يسلّم الاحتلال جثامين 450 شهيدًا بموجب صفقة التبادل واتفاق وقف إطلاق النار، لكنه يتعمّد تسليمها مشوّهةً وبلا معالم، ويحجب بياناتها وهوياتها الشخصية، الأمر الذي يعقّد من التعرف عليها من قبل ذويها.
ولا يُعرف على وجه الدقة العددُ الإجمالي لجثامين الشهداء المحتجزة لدى الاحتلال منذ إطلاقه حرب الإبادة على قطاع غزة، ووفقًا لسامح حمد، في حديثه لـ"الترا فلسطين"، فإن البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة والمكتب الإعلامي الحكومي وجهاز الدفاع المدني تشير إلى أن زهاء 10 آلاف شخصٍ فُقدت آثارهم خلال الحرب، ولا يُعرف مصيرهم، ومن بينهم مدفونون تحت أنقاض المنازل المدمّرة، أو في مناطق خطرة تحت سيطرة الاحتلال، أو محتجَزون لدى الاحتلال.
حجب بيانات
ويوضح حمد أن الاحتلال لم يلتزم أيضًا بتسليم اللجنة الدولية للصليب الأحمر جهازًا للفحص الفوري للحمض النووي، وهو جهاز غير متوفر في القطاع، ما يعوق التعرف على الجثامين، التي تم دفن عشراتٍ منها على أنها جثامين مجهولة الهوية.
وإزاء ذلك، فإن لجنة إدارة الجثامين تنتهج طرقًا بدائيةً في محاولة كشف هوية الجثامين، فبحسب حمد، يتم تصوير كل جثمانٍ ونشر الصور على شبكة الإنترنت، مرفقةً بالعلامات الفارقة في الجسد، والمرفقات الشخصية، للتسهيل على ذوي الشهداء.

كما تم تخصيص قاعةٍ كبيرةٍ في مجمع ناصر الطبي لعرض صور الجثامين أمام ذوي المفقودين، ويقول حمد إن المئات يأتون يوميًا لمشاهدة الصور على أمل معرفة مصير أبنائهم إن كانوا من بين الجثامين، أو أن الأمل في بقائهم على قيد الحياة لا يزال قائمًا.

ويتحدث حمد عن حالةٍ كارثيةٍ للجثامين، وتبدو عليها علاماتُ تعذيبٍ شديدةٍ وقاسيةٍ، كتعصيب العيون، وتكبيل الأيدي والأرجل، وطعناتٍ في الوجه والصدر والرقبة بأدواتٍ حادةٍ، وحروقٍ، وجروحٍ قطعيةٍ، مشيرًا إلى جثمانٍ لشهيدٍ مجهول الهوية وصل وفي رقبته حبلٌ مشدودٌ يوحي بتعرضه للخنق والشنق.
ويضرب حمد المثل بجثمان الشهيد بهاء الدين الخطيب (45 عامًا)، الذي رجّحت المعاينة الطبية والجنائية أنه قضى نتيجة تصفيةٍ ميدانيةٍ. والشهيد بهاء الدين هو أسيرٌ محرّر ضمن صفقة وفاء الأحرار في العام 2010، وقد تعرّفت أسرته على جثمانه من آثار تعرضه لمحاولة اغتيالٍ إسرائيليةٍ سابقة.
انتهاكات للقانون الدولي
وفي السياق ذاته، يقول مدير مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، المحامي علاء السكافي، لـ"الترا فلسطين"، إنه تبيّن من المشاهدة والمعاينة لجثامين الشهداء أن عددًا منها يحمل علاماتٍ يُشتبه بأنها ناجمة عن عمليات قتلٍ وتصفيةٍ ميدانيةٍ وتنكيلٍ، وآثارٍ لتكبيل الأيدي وتعصيب الأعين.
ظهرت على بعض الجثامين علاماتٌ كالإصابات بين كسورٍ في الأطراف والجمجمة والقفص الصدري، وبعضها تعرّض لثقوبٍ دائريةٍ تدل على إطلاق نارٍ، وأخرى كانت عليها حروقٌ أو بترٌ في الأطراف
وظهرت على بعض الجثامين علاماتٌ كالإصابات بين كسورٍ في الأطراف والجمجمة والقفص الصدري، وبعضها تعرّض لثقوبٍ دائريةٍ تدل على إطلاق نارٍ، وأخرى كانت عليها حروقٌ أو بترٌ في الأطراف، بحسب السكافي.
وأشار إلى أن الاحتلال سلّم الجثامين داخل أكياسٍ بلاستيكيةٍ، وكانت في حالة تجمّدٍ ومغطاةٍ بالأتربة والطين، وفي حالة تعفّنٍ وبداية تحلّلٍ، في انتهاكٍ جسيمٍ لحرمة الموتى وكرامتهم الإنسانية، ومخالفةٍ صريحةٍ لأحكام القانون الدولي الإنساني، التي تُلزم أطراف النزاع باحترام الموتى والتعامل معهم بما يصون إنسانيتهم وشرفهم.

ويوجب القانون الدولي الإنساني على أطراف النزاع التعامل مع من فقدوا أرواحهم أثناء النزاعات المسلحة بما يحفظ كرامتهم الإنسانية، ويبيّن السكافي أن هذا "يشمل حفظ الجثامين بطريقةٍ صحيحةٍ، عبر إعداد قوائمَ بأسماء وهويات المتوفين، وتوثيق تواريخ وأماكن الوفاة وأسبابها بدقة".
كما تُلزم اتفاقيةُ جنيف الرابعة تسليمَ الجثامين أو الرفات إلى ذوي المتوفين لدفنهم بكرامةٍ، ووفق معتقداتهم الدينية وثقافتهم، وإرفاق ما كان يحمله الشخص المتوفى قبل وفاته من نقودٍ أو أوراقٍ ثبوتيةٍ أو متعلقاتٍ شخصيةٍ أخرى عند تسليم الجثمان.