بيسان

غزة بلا زيتون للعام الثالث.. الحرب تقتلع الشجر والذاكرة والمواسم

المصدر تقارير
غزة بلا زيتون للعام الثالث.. الحرب تقتلع الشجر والذاكرة والمواسم
عبد الكريم السموني

عبد الكريم السموني

صحفي من قطاع غزة

لطالما شكل موسمُ قطفِ الزيتون في قطاع غزة مناسبةً سنويةً استثنائية، تُعيد للناس صلتهم بالأرض وتجمع العائلة حول الشجرة "المباركة" في طقوسٍ ريفيةٍ تتوارثها الأجيال. كانت الأغاني الشعبية تتعالى في الحقول، ووجبات الإفطار تُجهّز تحت ظلال الزيتون، فيما تمتزج رائحة الزيت الطازج بفرحة العطاء والعمل الجماعي.

لكن هذه المشاهد غابت عن الغزيين للعام الثالث على التوالي، بعدما حوّلت الحرب الإسرائيلية الحقولَ إلى أطلال، والأشجارَ إلى رماد، والمزارعين إلى نازحين.

نحو 50 ألف دونمٍ في قطاع غزة كانت مزروعةً بالزيتون قبل الحرب، لكن بعد عامٍ فقط منها تقلّصت إلى 10 آلاف دونمٍ فقط، واليوم وبعد مرور عامين لم يتبقَّ سوى 4 آلاف دونم

جودة أبو كميل (60 عامًا)، كان يملك أرضًا تمتد على مساحة 15 دونمًا مزروعة بأشجار الزيتون في بلدة المغراقة وسط قطاع غزة. يقول: "كانت المغراقة قطعةً من الجنة، كل موسم كنا نعيش فرحةً كبيرة، نخرج جميعًا إلى الأرض، نغني ونقطف الزيتون ونعدّ الزيت. أما اليوم فالأرض سُويت بالأرض والبيوت دُمّرت، حتى أبنائي الأربعة الذين كانوا يساعدونني في الحصاد استشهدوا".

ويضيف بحسرةٍ أن أرضه "لم تكن غريبةً على الجرافات"، إذ سبق أن جُرّف جزءٌ كبير منها خلال عدوان عام 2009، لكنه أعاد غرسها بأشجار زيتونٍ جديدةٍ من نوعي "السُرّي" و"البرنيع"، غير أن جيش الاحتلال لم يُبقِ شيئًا منها بعد إطلاقه حرب الإبادة.

ويوضح أبو كميل أن موسم الزيتون لم يكن مجرد عملٍ زراعي، بل "عيد شعبي" ينتظره الجميع، "فكانت النساء يُجهّزن الزعتر والخبز الطازج للمزارعين، والأطفال يجمعون الثمار المتساقطة بحماس، فيما يتقاسم الجيران الحصاد والمساعدة". وقال: "الزيتون كان يجمعنا، واليوم الحرب فرّقتنا. لا أرضَ ولا بيتَ ولا موسم".

أما المزارع عبد الرحمن حجي (50 عامًا) فعاش في أرضه شرقي حي الزيتون حياةً ريفيةً هادئة قبل أن تصل آلة التدمير والإبادة الإسرائيلية. امتدت أرض حجي على عشرات الدونمات، وملأتها مئاتُ أشجار الزيتون المعمّرة التي تنوّعت أيضًا بين "السُرّي" و"البرنيع"، وهي من أجود الأنواع التي اشتهر بها الحي منذ عشرات السنين.

يعيش حجي اليوم في خيمةٍ قرب شاطئ غزة، ولم يمحُ عاما الإبادة من ذاكرته: "حي الزيتون الذي كان كله رائحةَ بركة، فالأشجار عمرها أجيال، وكنا نجتمع كل موسم كبارًا وصغارًا، نغني (يا زيتون الأخضر يا مبارك)، ونفرح بالحصاد كأنه عرس".

أما اليوم، فالاحتلال جرّف كل شيء. "حتى الجذور القديمة اقتلعها" وفقَ حجي، الذي حاول بعد وقف إطلاق النار العودةَ إلى أرضه في شرقي الحي لزراعتها، لكن حال دون ذلك "الخط الأصفر" وإطلاق النار الذي لم يتوقف على كل من يقترب. يقول: "لم أفقد فقط الأرض، بل فقدت مكان الذكريات. الزيتون كان يربطنا بالحياة، والآن نعيش على أطرافها".

الاحتلال دمّر الأشجار ومعاصر الزيتون

ويصف الناطق باسم وزارة الزراعة في غزة محمد أبو عودة ما حلّ بقطاع الزيتون في غزة بأنه "كارثةٌ بكل المقاييس"، موضحًا أن الاحتلال دمّر مساحاتٍ هائلةً من الأراضي الزراعية خلال الحرب عبر التجريف والقصف واستخدام الغازات السامة، ما أدى إلى انهيارٍ غير مسبوقٍ في الإنتاج الزراعي.

وأوضح أبو عودة لـ"الترا فلسطين" أن نحو 50 ألف دونمٍ في قطاع غزة كانت مزروعةً بالزيتون قبل الحرب، لكن بعد عامٍ فقط منها تقلّصت إلى 10 آلاف دونمٍ فقط، واليوم وبعد مرور عامين لم يتبقَّ سوى 4 آلاف دونم.

وأضاف أن الإنتاج انخفض من 40 ألف طنٍ سنويًا إلى 7,500 طنٍ بعد عامٍ من الحرب، والآن لا يتجاوز ثلاثة آلاف طن، ما يعني خسارة 92% من الإنتاج الكلي.

أما الأسعار، فقد ارتفع سعر الكيلوغرام الواحد من الزيتون من 5 شواكل إلى 30 شيكلًا، في ظل ندرة المعروض وتدمير البنية التحتية الزراعية.

ولم تقتصر الخسائر على الأراضي فقط، إذ دمّر الاحتلال أيضًا 34 من أصل 40 معصرةَ زيتونٍ في القطاع، لتتراجع القدرة الإنتاجية من خمسة آلاف طنٍ من زيت الزيتون قبل الحرب إلى 400 طنٍ فقط اليوم، أي ما نسبته 8% من الإنتاج السابق.

دمّر الاحتلال أيضًا 34 من أصل 40 معصرةَ زيتونٍ في القطاع، لتتراجع القدرة الإنتاجية من خمسة آلاف طنٍ من زيت الزيتون قبل الحرب إلى 400 طنٍ فقط اليوم

وأكد أبو عودة أن هذه الأرقام تعكس "انهيارًا كاملًا لموسم الزيتون والإنتاجية الزراعية في قطاع غزة"، محذرًا من أن استمرار الدمار دون تدخلٍ دوليٍّ عاجل سيقضي على أحد أهم مكونات الأمن الغذائي الفلسطيني.

وبعدما كان موسم الزيتون في غزة مناسبةً لا تُشبه غيرها، تحوّل المشهد إلى خيامٍ للنزوح ومنازلَ مهدّمةٍ وحقولٍ محروقة. ورغم كل ذلك، لا يفقد المزارعون الأمل في أن يعود يومٌ يسمعون فيه مجددًا صوت المعاصر، ويتنفسون رائحة الزيت الطازج. يقول عبد الرحمن حجي بابتسامةٍ حزينة: "الزيتون مثلنا، قد يُقتلع لكنه لا يموت. سنزرعه من جديد".