مع انبلاج الصباح على شاطئ غزة، يتهادى صوت الموج فوق ركام المراكب المدمّرة. في الأفق القريب، يصطاد بعض الرجال بسنّاراتٍ بسيطة، يرمون خيطها في البحر وكأنهم يرمون الأمل في عمقٍ لا ينتهي.
ما حلّ بقطاع الصيد في في غزة خلال الحرب ليس ضررًا محدودًا، بل دمارٌ شاملٌ للقطاع بكل مكوناته
هكذا تبدو عودة الصيادين إلى البحر بعد الحرب الأخيرة: عودةٌ خجولة، لكنها تحمل عناد الحياة في وجه الفقد والدمار. لم يكن البحر هذه المرة كما عرفوه من قبل، فمعظم المراكب دُمّرت، والشباك أُحرقت أو جرفها العدوان، فيما تحوّلت الموانئ إلى مساحاتٍ من الخسائر والصمت. ومع ذلك، لم يفقد الصيادون صلتهم بالماء الذي عاشوا عليه، بل حاولوا ابتكار وسيلةٍ للبقاء، حاملين سنّاراتهم بدل الشباك الثقيلة، في محاولةٍ لاستعادة الرزق الذي سُلب منهم قسرًا. تلك العودة ليست مجرد رحلة صيد، بل فعلُ صمودٍ في وجه الانكسار.
"مدمنون على البحر"
يقول الصياد وليد العريني (الزعيم) إن العودة إلى البحر كانت أشبه بالعودة إلى الحياة نفسها، "فكل صيادِ سنّارةٍ هو إنسانٌ مدمنٌ على البحر"، وفق وصفه.
ويضيف العريني: "منذ الأيام الأولى للحرب كنا ننتظر أيّ فرصةٍ نعود فيها إلى هويتنا الأصلية. بعد الهدنة الأولى والثانية، أول ما فكرنا فيه لم يكن الطعام أو المأوى، بل البحر. أردنا أن نلمس الماء من جديد".
ويروي العريني كيف تحوّل البحر إلى مساحةٍ من الخوف بعد أن كان مصدر راحةٍ وعشق، ويوضح: "أصعب لحظات الصيد الآن حين يظهر الطراد الإسرائيلي فجأةً أمامنا. حضوره وحده يحمل الرعب والموت. لكننا رغم ذلك نبقى، نحاول أن نصطاد بما تبقّى من أدواتنا".
ويؤكد العريني، الذي خسر خلال الحرب شبكته واحترق مركبه بالكامل، أن الصيد بالسنّارة، رغم مردوده المالي القليل، يحمل متعةً لا يعرفها إلا من جرّبها، "فحين تسحب السمكة وتشعر بثقلها، تنسى كل شيء. لكنها اليوم لم تعد فقط هواية، بل وسيلةً للبقاء".
ولم يتلقَّ العريني أيّ تعويضاتٍ عن مركبه وشبكته، ويبيّن أن صائدي الصنّارة يعملون بشكلٍ فردي، "ولا جهة تمثلنا أو تطالب بحقوقنا، في حين أن الذين يملكون مراكب كبيرة لديهم نقابةٌ وربما يحصلون على مساعدات".
"الصيد أصبح شكلًا من أشكال المقاومة"
أما الصياد أحمد الزهّار فيصف علاقته بالبحر بأنها "علاقةُ عشقٍ طويلة"، ويقول: "العودة إلى البحر بعد شهورٍ من الانقطاع كانت أشبه باللقاء مع صديقٍ قديم. مجرد أن أجلس على الشاطئ وألقي بخيطي أشعر أني أتنفس من جديد".
غير أن الصيد بعد الحرب لا يشبه الصيد قبلها، وفق الزهّار، "فالصنّارات تضررت، والخيوط مفقودة، ومحالّ بيع الأدوات دُمّرت، وكل ما نملكه بسيط نعيد استخدامه مراتٍ ومرات". ويضيف: "حتى الأسماك تغيّرت، فمواسمها اختلّت ولم تعد كما كانت. موسم الدنيس مثلًا، يُفترض أن يبدأ في منتصف أيلول/ سبتمبر، لكنه تأخر ولم يظهر بعد".
ورغم كل ذلك، لا يفكر الزهّار في التوقف عن الصيد، مبينًا أن الصيد بالسنّارة هوايةٌ في كل مكان، إلا في غزة فهو متنفسٌ وحياةٌ ومصدر رزق، مشيرًا إلى أن الناس في غزة، وبسبب الحصار وغياب اللحوم، ينتظرون السمك الذي قد يكون الغذاء الوحيد على المائدة.
ويحذر الزهّار من غياب الرقابة البحرية وقوانين الصيد، إذ يستخدم بعض الصيادين شباكًا ضيقةً أو موادَّ سامةً تقتل الأسماك الصغيرة وتدمّر دورة التكاثر، مطالبًا المؤسسات المسؤولة بمراقبة البحر وحمايته: "البحر رزق، لكنه أيضًا أمانة. نريده أن يظلّ حيًّا ليطعمنا ويطعم أولادنا"، أضاف.
قطاع الصيد في غزة مشلول بالكامل
ويصف مسؤول لجان الصيادين في غزة، زكريا بكر، ما حلّ بقطاع الصيد في الحرب بأنه "ليس ضررًا محدودًا، بل دمارٌ شاملٌ للقطاع بكل مكوناته"، مبينًا أن أكثر من 95% من ممتلكات الصيادين دُمّرت، كما اختفت أجزاءٌ من الميناء نفسه بفعل التجريف، وطال الدمار غرف الصيادين ومخازنهم التي كانت تحتوي على معداتهم وشباكهم ومحركاتهم، وحتى مصانع الثلج وسوق السمك لم تسلم من القصف.
ويوضح بكر أن الخسائر المادية المباشرة تُقدَّر بعشرات ملايين الدولارات، إلى جانب خسائر غير مباشرة قُدِّرت بسبعة ملايين دولارٍ شهريًا نتيجة توقف الصيد، "لكن الأدهى من ذلك أن الاحتلال ما زال يمنع الصيادين من دخول البحر حتى الآن، أي أن الشلل لا يزال قائمًا".
ما يصطاده الصيادون في غزة لا يتجاوز 2% من الإنتاج الطبيعي قبل الحرب، وهذا أدى إلى ارتفاع أسعار السمك بشكلٍ كبير
وبيَّن بكر أن أقلّ من 500 صيادٍ من أصل أكثر من 4500 يعملون في البحر حاليًا، ومعظمهم يستخدم مراكب بدائيةً صنعوها من أبواب ثلاجاتٍ وإطارات سياراتٍ وقطع فلينٍ لتعويمها، وما يصطادونه لا يتجاوز 2% من الإنتاج الطبيعي قبل الحرب، وهذا أدى إلى ارتفاع أسعار السمك بشكلٍ كبير.
ويؤكد بكر أن فصل الشتاء المقبل سيضاعف معاناة الصيادين الذين يعملون بمراكب مجدافٍ صغيرة لا تقاوم ارتفاع الأمواج، مشددًا على أن "الوضع الإنساني للصيادين في الوقت الحالي هو الأسوأ منذ احتلال غزة في عام 1967".
وطالب بكر بتدخّلٍ عاجلٍ من المؤسسات الدولية والعربية لإعادة إعمار الميناء وصناعة مراكب محلية، وإدخال معدات الصيد والمحركات والرافعات لانتشال المراكب الغارقة، والسماح بالصيد ولو لمسافاتٍ محدودة (ستة أو سبعة أميال) بشكلٍ مرحلي، ريثما تُنفّذ اتفاقيات البحر الدولية. وقال: "لا يمكن الحديث عن إعمارٍ حقيقيٍّ لغزة دون إعادة الحياة إلى البحر".