بيسان

النزوح الطويل يغيّر ملامح المجتمع الغزّي: العائلة لم تعد كما كانت

المصدر تقارير
النزوح الطويل يغيّر ملامح المجتمع الغزّي: العائلة لم تعد كما كانت
محمد المقيد

محمد المقيد

صحفي من غزة

لم ينجُ النسيج الاجتماعي في قطاع غزة من النزوح الذي رافق عامين من الإبادة. فتدمير البيوت وتجميع مئات آلاف النازحين في مناطق ضيقة، أجبر عائلات كبيرة من مدن مختلفة على العيش تحت سقف واحد، يتقاسمون الخبز والماء والقلق، ويعيدون تعريف العائلة بوصفها جماعة ناجية لا رابطة دم. التحوّل لم يكن ماديًا فقط، بل مسّ جوهر الإنسان ذاته: طريقته في المعاملة، الثقة، الخوف، الحنين.

قطاع غزة عاش منذ السابع من أكتوبر أكبر حركة نزوح اجتماعي في تاريخه الحديث، وهذا التكرار المستمر للنزوح لم يكن مجرد انتقال مكاني، بل كان تفكيكًا بطيئًا لبنية العلاقات الاجتماعية التي حافظت على تماسك المجتمع لعقود

النزوح قسم العائلات

ففي مخيمٍ ضيّق وسط الزوايدة، يجلس يوسف المدهون مستعيدًا تفاصيل بيت العائلة المكوّن من خمسة طوابق في مشروع بيت لاهيا، قبل أن تفرّقه الحرب ويحوّله إلى ذكرى بعيدة. يقول إن النزوح لم يُخرجهم فقط من بيوتهم، بل فكّك الروابط التي جمعت العائلة لعقود، حتى غدت الأسرة الواحدة موزعة بين المخيمات والمدن.

يروي المدهون كيف كان البيت القديم يعجّ بالحياة في الأعياد والمناسبات، وفي أمسيات رمضان وجمَع العائلة أيام الجمعة، حيث كانت الضحكات تملأ الساحات، والولائم تجمع الكبار والصغار. أولاده وأبناء شقيقه كانوا يقضون معظم أوقاتهم معًا قبل الحرب، يلعبون فوق سطح البيت أو في الحارة.

أما اليوم، فيسكن يوسف مع أولاده في مخيم الزوايدة، بينما يعيش شقيقه وأبناؤه في خانيونس، ولم تعد اللقاءات ممكنة، فالكل منشغل في معركته اليومية لتأمين لقمة العيش في واقعٍ ينهك الجميع.

ويضيف أن أبناءه كبروا قبل أوانهم، إذ انشغلوا بالتفكير في هموم الحياة بدلًا من اللعب والطفولة، "فالنزوح لم يسرق بيوتهم فحسب، بل سرق أيضًا ملامح الطفولة والدفء العائلي الذي كان يجمعهم تحت سقفٍ واحد" كما يقول.

رائحة الذكريات

وتتحدث حنين طبيل عن توتراتٍ يومية صارت جزءًا من الواقع الجديد، حيث الخلافات تنشأ أحيانًا لأسبابٍ بسيطة، كطريقة توزيع الطعام أو الماء، أو حتى بسبب ضيق المكان المخصّص للنوم، مشيرةً إلى أن الجميع يعيشون حالة توترٍ تجعل الانفعال أسرع من المعتاد.

وتضيف حنين أن هذه الحالة لا تستثني أحدًا، فهي نفسها تجد أحيانًا أنها جزء من المشكلة، وأحيانًا أخرى تحاول التهدئة وجمع الناس من جديد، لأن ما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرّقهم.

وتستذكر حنين آخر جمعة للعائلة في البيت قبل النزوح، يوم السادس من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، حين كان البيت يعجّ بالضحك وأصوات الأطفال، والأم في المطبخ تُعدّ الطعام، والجميع حول السفرة التي كانت رمزًا للعائلة والدفء. حينها، لم يخطر في بالها أن تلك اللحظة ستكون الأخيرة التي يجتمعون فيها تحت سقفٍ واحد. فمنذ ذلك اليوم، بات كل فرد منهم في مكان، يحاول أن يتمسك بما تبقى من ذكرياته.

وتصف حنين أكثر لحظاتها وجعًا حين تفوح رائحة طعامٍ يشبه ما كانت تطهوه والدتها، فتشعر للحظة وكأنها عادت إلى ذلك اليوم، لكنها سرعان ما تصطدم بواقعها حين تفتح عينيها على مشهد الخيمة المحيطة بها. تقول إن هذا التناقض بين الذكرى والواقع هو أكثر ما يوجعها، فالحياة التي عرفوها رحلت، لكنّ الذكريات ما زالت تطاردهم في كل تفصيل.

النزوح لم يبدّل المكان فحسب

أما ناصر العجرمي، النازح من معسكر جباليا والمقيم حاليًا في معسكر دير البلح، فيتحدث عن تغيّر حياة الشباب في الحارات، أولئك الذين كانوا يجتمعون يوميًا للسهر أو لمشاهدة المباريات أو الشواء في الأزقة الضيّقة، قبل أن تفرقهم الحرب في مناطق نزوح متباعدة، وتتبدّد تلك الجلسات التي كانت تُنعش الحياة الاجتماعية. يقول: "اليوم، يعيش كل واحد في عالمٍ منفصل، تحكمه فكرة النجاة أكثر من أي شيء آخر".

ويلخص العجرمي المشهد مستذكرًا قصة أحد شبان الحارة "المعروف بروحه المرحة ومبادرته لمساعدة الآخرين، وقد رأيته بعد الحرب واقفًا في طابور المساعدات الغذائية يخفي وجهه خجلًا". بالنسبة للعجرمي، فإن المشهد يختصر التحوّل الاجتماعي من الكرامة الجماعية إلى العزلة الفردية.

ويعتقد العجرمي أن النزوح لم يبدّل المكان فحسب، "بل بدّل نظرة الناس إلى أنفسهم وإلى بعضهم البعض. فالمخيم الذي كان مليئًا بالحياة، لم يعد سوى ذكرى بعيدة، كأنه حلمٌ جميل تلاشى في صخب الحرب".

المجتمع الذي ضُرب ولم ينكسر

ويصف أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الإسلامية بغزة، وليد شبير، ما عاشه قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر بأنه أكبر حركة نزوح اجتماعي في التاريخ الحديث لغزة، "فكل بيت في غزة عاش تجربة النزوح مرة أو اثنتين أو عشرات المرات، وكل مرة كانت تترك أثرًا أعمق من التي قبلها"، موضحًا أن هذا التكرار المستمر للنزوح لم يكن مجرد انتقال مكاني، بل كان تفكيكًا بطيئًا لبنية العلاقات الاجتماعية التي حافظت على تماسك المجتمع لعقود.

ويرى شبير أن النزوح فرّق الأسر ومزّق الجغرافيا العائلية، فابتعد الإخوة عن بعضهم، وتوزعت العائلة الواحدة بين محافظات ومخيمات مختلفة، مما خلق فجوة في التواصل وأضعف الشعور بالانتماء الجمعي. ويستدرك: "رغم ذلك، لم تنكسر روح الغزيين، فالمجتمع الذي أراد الاحتلال تفكيكه وجد في المحنة سببًا جديدًا للتماسك، والتجاور القسري بين العائلات النازحة من مناطق مختلفة، أنتج علاقات جديدة قائمة على المشاركة في المعاناة، وأعاد تعريف مفهوم التضامن الشعبي من جديد".

لكن هذه الحرب "لم تكن مجرد عدوان، بل كانت حربًا كاشفة"، وفق وصف شبير، إذ "كشفت عن معادن الناس وطبائعهم، فأظهرت أجمل ما في بعضهم وأسوأ ما في آخرين. فرأينا من يمدّ يد العون لجاره دون مقابل، ومن يشارك طعامه مع الغريب في الخيمة، لكننا رأينا أيضًا من انزلق نحو الجشع أو استغلال الحاجة، بل ومن تعامل بالربا أو سرق قوت الآخرين". هذه الازدواجية، برأيه، جزء من الصورة الكاملة للمجتمع الذي يعيش تحت ضغط البقاء.

ويؤكد شبير أن الأطفال كانوا أكثر الفئات تضررًا من النزوح، إذ حُرموا من مدارسهم ومن بيئاتهم التعليمية والاجتماعية، ووجد كثير منهم أنفسهم مضطرين لمساعدة عائلاتهم في تأمين الطعام والماء بدل اللعب والدراسة. ويضيف: "لقد خسر الأطفال جزءًا من طفولتهم، وجزءًا من المدرسة بوصفها مساحةً لبناء الصداقة والانتماء".