بيسان

أطفال غزة.. طفولة محاصرة بين الخيمة والركام

المصدر تقارير
أطفال غزة.. طفولة محاصرة بين الخيمة والركام
محمد نشبت

محمد نشبت

كاتب صحفي من فلسطين

لم تعد الطفولة في غزة تشبه نفسها الحرب التي اجتاحت القطاع لعامين حطمت البيت والشارع والمدرسة، وأحالت الدفاتر إلى رماد، واللعب إلى ذكرى، والحقائب المدرسية إلى حقائب نزوح. على أطراف المدن والقرى، تتناثر الخيام المهترئة كبدائل مؤقتة للحياة، فيما يصطف الأطفال في طوابير الماء والخبز بدلًا من طوابير الصباح المدرسي. صاروا يحفظون أسماء السياسيين الإسرائيليين أكثر من أبطال الكرتون، ويلاحقون أخبار المعابر كما لو كانت مصائرهم الشخصية. في مجتمعٍ يتفتت بين النزوح والفقدان، صار الأطفال أكثر من ضحايا؛ صاروا شهودًا على زمن يعلّمهم لغة الخوف قبل أبجديات القراءة.

أصوات صغيرة تحت الركام

تحت حصارٍ خانق وانهيارٍ شبه كامل للبنية التحتية، يعيش أطفال غزة واقعًا يختصر ملامح كارثة إنسانية ممتدة. ومع غياب التعليم والرعاية النفسية، تحذر منظمات الأمم المتحدة من أن جيلًا كاملًا في طريقه إلى الفقدان التربوي والاجتماعي.

صار أطفال غزة يحفظون أسماء السياسيين الإسرائيليين أكثر من أبطال الكرتون، ويلاحقون أخبار المعابر كما لو كانت مصائرهم الشخصية

على باب خيمة في دير البلح، يقف أحمد عياش (12 عامًا) يحمل دلوًا بلاستيكيًا أكبر من ذراعيه. يراقب الطابور الممتد أمام صهريج الماء المتنقل، والعرق يبلل جبينه رغم برودة الصباح. يقول: «كنت زمان أصحى بكير أجهز شنطتي للمدرسة.. الآن بصحى أشوف إذا في دور للمي. لو ما لحقت برجع فاضي». لم يعد يعرف مكان دفاتره القديمة المدفونة تحت الركام، لكنه صار يعرف جيدًا أي الطرق أقل قصفًا للوصول إلى المياه. أحمد واحد من أكثر من 600 ألف طفل نزحوا من بيوتهم، بعضهم عشر مرات أو أكثر، وفقًا لتقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا).

إلى جواره في الطابور ذاته، تزاحم راما الدقران (9 سنوات) من حي الشجاعية على تعبئة جالون بلاستيكي صغير. كانت تحب اللعب بالعرائس، لكنها تهمس وهي تنظر إلى الدمية الممزقة التي تحملها أحيانًا: «ما بدي ألعب.. كل ما أشوف عروسة بخاف تنكسر زي بيتي». في الليل، تصرخ عند أي صوتٍ مرتفع، وتركض إلى حضن أمها. حين تسألها عن أمنيتها، لا تتردد: «بدي المعبر يفتح». راما واحدة من بين تسعة من كل عشرة أطفال في غزة تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) إنهم يعانون من اضطرابات نفسية حادة تشمل الخوف المستمر وفقدان القدرة على النوم.

محمد الصواف (10 سنوات) من خان يونس يتعامل مع النزوح كما لو أنه فرض حياة. في كل مرة يضع البطاطين والثياب في حقيبة قديمة، يساعد والدته في شدّ الحبال، ويقول مبتسمًا بوجه شاحب: «كل مرة بقول هاي آخر مرة.. وبعدين بنمشي من جديد». والده المنهك يجلس على حجر قريب عاجزًا عن رفع صوته. يتابع محمد: «صرت أعرف كل مدارس الإيواء، بس نسيت شكل مقعدي في الصف». هو واحد من نحو مليون طالب انقطعت دراستهم، بعدما خرجت قرابة 80% من مدارس غزة عن الخدمة، بين دمارٍ وتحويلٍ إلى ملاجئ للنازحين، وفق تقديرات وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).

أما علاء سالم (13 عامًا) من جباليا، فيخرج هاتفًا مكسور الشاشة ليُري صور أصدقائه الثلاثة الذين قُتلوا تحت القصف. يضع الهاتف على الأرض ويفتح الصور واحدة تلو الأخرى وكأنه يعد فريقًا كرويًا، ثم يقول: «كنا نلعب كل العصر.. الآن بلعب لحالي. بحط صورهم على الأرض كأني معهم». يضحك ضحكة قصيرة تنتهي بدمعة، ثم يهمس: «صرت أحفظ أسماء نتنياهو وبن غفير أكثر من أسماء لاعبي برشلونة». أصدقاء علاء بعض من 6,000 طالب قُتلوا خلال الحرب، وفق إحصاءات وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، لكنه ما زال يتحدث عن أصدقائه كأنهم سيعودون للعب غدًا.

في فناء مدرسة مهدمة في غزة، تجلس لين الجمال (11 عامًا) على حجر مكسور مع مجموعة من الأطفال. يتحدثون عن الهدنة بدلًا من الامتحانات، وعن المعابر بدلًا من الرحلات المدرسية. تسأل صديقتها: «راح تصمد الهدنة؟»، ثم تلتفت وتقول: «أنا كنت بدي أصير معلمة.. بس الآن بدي بس ما ننقصف كمان مرة». تحاول أن ترسم بيتًا على ورقة مهترئة، لكن البيت دائمًا ينتهي بلا سقف. مدرستها واحدة من مئات المدارس التي تحولت إلى أنقاض، تاركة أكثر من مليون طفل بلا تعليم منتظم، بحسب أونروا.

هؤلاء الأطفال، على اختلاف أماكنهم وتجاربهم، يشتركون في صورة واحدة: طفولة معلّقة بين الخوف والانتظار. عند كل طابور ماء، عند كل خيمة جديدة، عند كل حديث عن هدنة أو معبر، تُكتب حياة ناقصة لا تُشبه طفولة.

جيل كامل على حافة الانهيار

تقول الأخصائية النفسية دعاء طافش إن ما يعيشه أطفال غزة هو صدمة جماعية متكررة، تُعيد تشكيل وعيهم وهويتهم. «الطفل الذي يُسلب منه البيت والمدرسة والأمان، يفقد ركائز النمو الطبيعي. نرى أطفالًا يتحدثون بلغة الكبار عن المعابر والسياسة بدل اللعب والدراسة، وهذا يهدد مستقبلهم النفسي والاجتماعي»، تضيف طافش.

وتشير إلى أن الحرب لم تحطم بيوت الأطفال فحسب، بل حطمت شبكة الأسرة والمجتمع: «الأم التي تحاول أن تحمي أبناءها في خيمة مكتظة، أو الأب الذي لا يستطيع تأمين لقمة الخبز، كلاهما يعيشان ضغطًا ينعكس على الأبناء. نحن أمام جيل يتعلم مبكرًا معنى الخسارة والخوف، وإذا لم تُقدَّم برامج دعم نفسي حقيقية، فإننا نرسم ملامح مستقبل هشّ لمجتمع كامل».

الحق المسلوب

وفق اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، يُعدّ حرمان الأطفال من التعليم والحماية الآمنة انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي الإنساني.

وتحذر منظمات حقوق الإنسان من أن استمرار هذا الواقع سيؤدي إلى فقدان جيل كامل من المهارات التعليمية والاجتماعية، ما يهدد مستقبل المجتمع الفلسطيني بأسره.

يؤكد الدكتور أحمد العويطي، الخبير في القانون الدولي، أن ما يجري في غزة لا يمكن اعتباره ظرفًا مؤقتًا. «هناك نمط واضح من التدمير الممنهج للمؤسسات التربوية والبنية الاجتماعية، وهو ما يتعارض مع أبسط مبادئ حماية المدنيين في أوقات الحرب».

من صهريج الماء إلى حقيبة النزوح، من صور الأصدقاء إلى خريطة المعابر، تتوزع طفولة غزة اليوم على مشاهد الفقد والخوف. ليست مجرد قصص فردية، بل انعكاس لمجتمع بأكمله يتشكل تحت الركام. فغياب الطفولة يعني غياب المستقبل، وإعادة إعمار غزة لا تبدأ من الحجر فقط، بل من استعادة قدرة الأطفال على اللعب والتعلم والحلم. ولأن هؤلاء الصغار إن كبروا في خوفٍ دائم، فأي مستقبل يمكن أن يبقى لغزة؟