بيسان

غزة: الناجون من الإبادة يحصون خسائرهم وينتظرون "العوض"

المصدر تقارير
غزة: الناجون من الإبادة يحصون خسائرهم وينتظرون "العوض"
أميرة نصَّار

أميرة نصَّار

صحافيّة وكاتبة من غزَّة

تُلامس أنامل الشاب العشريني محمد نصّار خلفية هاتفه المحمول التي تحمل وجه صديقه الشهيد محمد النبريص، فيما تتصدّر شاشة القفل صورة لصديقه الشهيد شعبان الدلو بابتسامته البيضاء. يقول: "هما أكبر خساراتي في هذه الحرب، فلم يكونا مجرد صديقين فقط، فقد شاركاني قراراتي ودراستي وأفراحي وأحزاني وأوجاعي. لكن الاحتلال الإسرائيلي حرمني منهما إلى الأبد".

ومع دخول وقف إطلاق النار، نُكِئت الجروح المفتوحة في قلوب أكثر من مليوني إنسان عاشوا حرب الإبادة في قطاع غزة. لكلٍّ منهم خسارته التي تخصّه وحده، غير أن كثيرين ما زالوا يؤمنون بأن "العوض" قد يأتي في الأيام القادمة.

يضيف نصار: "خسارة الأرواح لا تُعوّض بأي ثمن. فبالرغم من خسارتي للبيت ودفء العائلة وجمعاتها، إلا أن خسارة أصدقائي لا تُشبه أي خسارة. ولكي أُبقيهم أحياء داخل تفاصيل يومي وضعت صورهم على هاتفي لأبقى أشاهدهم بجانبي كما اعتدتُ دومًا".

يطلق نصار تنهيدة طويلة، ويتابع: "لو لم تسرق حرب الإبادة أرواحهم، كنا سنبتهج ونتعانق ونخطط ونرسم أحلامنا التي جمعتنا في قاعات الدراسة وكافيهات البحر".

ومع دخول وقف إطلاق النار، نُكِئت الجروح المفتوحة في قلوب أكثر من مليوني إنسان عاشوا حرب الإبادة في قطاع غزة. لكلٍّ منهم خسارته التي تخصّه وحده، غير أن كثيرين ما زالوا يؤمنون بأن "العوض" قد يأتي في الأيام القادمة.

خيمة بدل "بيت العمر"

من جانبها، ما زالت النازحة أم يوسف عليوة (33 عامًا) في خيمتها في دير البلح تنتظر العوض عن "بيت العمر الذي شيدوه بثمن ذهبها وبكدّ زوجها الذي كان يعمل ليل نهار لسد أقساطه"، قبل أن يدمّره الاحتلال في عدوانه على حي الشجاعية، وتحصل العائلة بدلًا منه على خيمة مرقّعة بالشوادر الملوّنة.

تقول عليوة: "مع وقف إطلاق النار، بدأ كثير من النازحين بجوارنا بإزالة خيامهم والعودة بها إلى بيوتهم، أما أنا وأسرتي والعديد من أفراد عائلتي فلا نملك هذا الحق، لأن منزلنا يقع في المنطقة الحمراء التي يُمنع الاقتراب منها حتى اللحظة".

يُنهي الأطفال اللعب عند باب الخيمة ثم يدخلون إليها بملابسهم المتّسخة، بينما تراقبهم أمهم بحزن وتعلّق: "أطفالي كانوا لا يخرجون من غرفتهم ويكتفون بمشاهدة التلفاز ولعب الألعاب التعليمية على الهاتف المحمول، لكن النزوح لم يكتفِ بسرقة البيت، إنما بخسارتهم لحياتهم المنظّمة وتشتّت مستقبلهم".

وتستدرك: "ننتظر العوض الجميل من الله ونوقن أننا سنعيد بناء بيتنا ومستقبل أطفالنا من جديد".

ووفقًا لتحليل أجرته وكالة الأمم المتحدة للتطبيقات الفضائية "يونوسات" باستخدام صور الأقمار الصناعية، فإن الجيش الإسرائيلي دمّر أو ألحق أضرارًا بنحو 193 ألف مبنى في قطاع غزة حتى 8 تموز/يوليو 2025، أي ما يعادل 78% من البنية العمرانية التي كانت قائمة قبل الحرب.

"أحرقت صوري لطهي الطعام"

أما المصوّر والمحاضر الجامعي محمود أبو حمدة (34 عامًا) فخسارته كانت خاصة جدًا، إذ اضطر إلى حرق بعض من صوره الفوتوغرافية لإشعال النار وطهي الطعام، كما فقد معداته التي كانت ذخيرته لوقت طويل.

عُرف أبو حمدة بعينه القادرة على التقاط أجمل الصور للطبيعة والحياة اليومية وأطباق الطعام والمنتجات الغذائية، غير أنه تحوّل في الحرب إلى صور المجاعة والمجوعين والدمار والركام. يقول: "كانت الحياة مبهجة، وكان شغفي التقاط الصور لميناء غزة وشاطئها، وللمساحات الطبيعية الخضراء وضحكات الأطفال، لكن الحرب حولتني إلى شخص يركض دون أن يتمكن من التقاط أنفاسه، بسلسلة خسائر تزداد يومًا بعد يوم".

محمود أبو حامدة
صور محمود أبو حامدة، قبل الحرب وبعدها

ويضيف: "تركت الحرب ندوبًا لكل إنسان، وخسرت فيها أعز أصدقائي، وهو المصور يحيى برزق، ثم فقدت معداتي وكاميراتي والذكريات مع الأشخاص والأماكن التي أحبها". رغم ذلك، لم ييأس أبو حمدة، فهو يؤكد أنه سيعود لتصوير وتوثيق الطبيعة وأطباق الطعام لو توقفت الحرب واستقرت الحياة، "فأنا لا أستطيع الانسلاخ عن ما أحبّه" كما يقول.

محمود أبو حامدة
صور من أرشيف محمود أبو حامدة

الناجية الوحيدة

وفي مستشفى المعمداني، ما تزال الطفلة إسلام حاتم (8 أعوام) تعيش خساراتها الكبرى كناجية وحيدة من مجازر الاحتلال، التي أبادت أسرتها بأكملها، وتركتها مصابة بنزيف دماغي وكسر في الجمجمة، بينما سارعت خالتها لاحتضانها.

تمسح الخالة (38 عامًا) رأس إسلام، وتقول: "خسرت شقيقتي وطفلها الذي كان في أحشائها، وكنت قد أعددت وجهّزت له الملابس احتفاءً بقدومه. ورغم ذلك فقد أصبحتُ أمًا للمرة الأولى بعد 20 عامًا من الانتظار والحرمان ورحلات العلاج الخارجية"، في إشارة إلى إسلام التي باتت تناديها "طفلتي سلّوم".

ورفعت الحرب الإسرائيلية عدد الأطفال الأيتام في قطاع غزّة إلى 57 ألفًا، بعدما فقد 40 ألف طفل أحد والديهم أو كليهما، وبعضهم بقي وحيدًا من بين جميع أفراد عائلته.

ببراءة تُخبرنا إسلام: "كنت أقضي جل أوقاتي مع إخوتي في اللعب والذهاب إلى السوق لشراء الملابس المتشابه، حيث كانت ماما تشتري لنا نفس الملابس والألعاب".

توقفت حرب الإبادة على قطاع غزة، لكن إسلام لم تتمكّن من توديع أفراد عائلتها، ولم تطبع قبلة الوداع الأخيرة على جباههم، وقد طلبت من جدتها أن تحضر لها جميع أغراضهم وملابسهم لتبقى محتفظة برائحتهم وشيء من ذكرياتهم، علّ ذلك يعوضها غيابهم الأبدي الذي حدث فجأة.

وبحسب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، فإن ما لا يقل عن 42 ألف شخص في قطاع غزة يعانون من إصابات تتطلب تأهيلاً طويل الأمد. ويُقدر أن مليون شخص بحاجة إلى رعاية صحية نفسية.