على مدار اثنين وثلاثين عامًا، تتسلل أشعة الشمس إلى عرين الأسود الذهبية التي تلوي ذيلها وتزأر، وتركض الغزالات نحو أيدٍ ناعمةٍ بيضاء تمنحها القليل من العشب الذي تتوسطه زهرات برية. فيما تمارس التماسيح المائية لهوها بالماء، يقف الزوار داخل حديقة "البرازيلي" في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، ملتقطين صورًا لحياةٍ بريةٍ وطبيعةٍ هادئة، هذا المشهد الذي قلبه الاحتلال الإسرائيلي إلى فزع ووحشية، سارقًا الحيوانات خلال ثوانٍ معدودة.
في عام 2024، هدد الاحتلال الإسرائيلي باجتياح مدينة رفح، فيما هدير القذائف لا يتوقف عن السقوط على المباني السكنية والشوارع، والمناشير تطالب السكان بالإخلاء الفوري. وجدت العائلة نفسها أمام خيار وحيد: حماية الحيوانات والنزوح بها إلى بر الأمان
لكن بطلة قصتنا، داليا جمعة، ابنة أبيها، وبرفقة أشقائها، صارعت الوقت لإنقاذ وانتشال عائلتها الثانية مرات عدة رغم فقدانها لحصان البوني الذي رافقها في طفولتها. تقف داليا خلف قفص الأشبال وتطعم "سيمبا"، وتحدثنا: "قبل حرب الإبادة على قطاع غزة، كنا نمتلك أول وأكبر حديقة حيوانات في القطاع بمساحتها الممتدة على خمسة دونمات، أنشأها والدي فتحي جمعة من خلال تجربة أصدقائه حين كان مسافرًا في رحلاته خارج القطاع".
تتنقل داليا بين الأقفاص المتراصة بجوار بعضها البعض، حاملة فتات الخبز والأرز تمنحه للقرود، وتقول الطبيبة العشرينية: "هذه المساحة الصغيرة التي نزحنا إليها في مدينة دير البلح لا تشبه حديقتنا التي ضمت الأنواع الفريدة والنادرة من الحيوانات التي جلبها والدي بآلاف الدولارات من الخارج. أجبرنا الاحتلال الإسرائيلي على النزوح منها وسط انهمار القذائف علينا وعليها لننجو بأرواحنا وأرواح البعض منها".
كانت حديقة البرازيلي تضم العديد من الحيوانات: الراكون، والكونغر، والنعام الأميركي والإفريقي، والأسود، والتماسيح المائية، والضباع، والذئاب، والطائر الحزين، والببغاوات.
وعن العلاقة التي جمعت داليا بالحيوانات، تضحك وتقول لـ"الترا فلسطين": "منذ أن كنت في الرابعة من عمري وأنا أعتني بالحيوانات وأعتبرهم أفرادًا من عائلتي؛ أطعمهم وأعتني بهم وأصطحب الزوار في جولة في الحديقة. كانت الابتسامة ترتسم على وجوه الأطفال حين يشاهدون الحيوانات ويتزاحمون لتقديم الطعام لحيوانهم المفضل".
في عام 2024، هدد الاحتلال الإسرائيلي باجتياح مدينة رفح، فيما هدير القذائف لا يتوقف عن السقوط على المباني السكنية والشوارع، والمناشير تطالب السكان بالإخلاء الفوري. وجدت العائلة نفسها أمام خيار وحيد: حماية الحيوانات والنزوح بها إلى بر الأمان.
وقالت: "في شهر مايو 2024، أُجبرنا على النزوح من رفح، فقمنا بتجهيز الحيوانات الصغيرة، وفاضلنا بين تلك التي يسهل نقلها في أقفاص، وتلك المفترسة التي يمكن أن تصمد في الحديقة. زودناها بالطعام والشراب لمدة شهرين، ثم عملنا على تأمين المواصلات والطعام لنقل الحيوانات الأخرى إلى مدينة خانيونس في مكان غير ملائم لمعيشة الحيوانات".

تشعل داليا النار لإعداد وجبة الطعام للحيوانات وتقول: "تركنا داخل الحديقة ثلاثة أسود وكلاب الحراسة والذئاب والعديد من الحيوانات الفريدة. لم يسعفنا القصف لنقلها معنا، ونجونا بأرواحنا وأرواح بعضها بأعجوبة من موت يتربص بنا من كل الجهات".
تستكمل داليا: "فيما مضى كانت حديقتنا معدة بأقفاص متينة للحيوانات، وكان يتخللها أشجار كثيفة، ويفصل بين أقفاص الحيوانات المفترسة والأليفة مساحات رملية واسعة وآمنة مهيأة للعاملين والزوار". وفي آب/أغسطس 2025، فتكت المجاعة بمدينة غزة، وعاش الناس ظروفًا خانقة وسط الجوع والفقد والمعاناة غير المسبوقة.
وأضافت: "اشتدت المجاعة علينا كبشر، ورافقها تأثير سلبي على الحيوانات، حيث كنا نشتري الدقيق بأسعار مضاعفة ونتقاسم طعامنا بيننا وبين الحيوانات الأليفة، بينما الأشبال والحيوانات المفترسة كنا نشتري لها الجيف الميتة بأسعار تجاوزت 500 دولار مرتين أسبوعيًا. خسرنا العديد من الحيوانات بسبب قلة الطعام وعدم توفر الرعاية الصحية والدواء اللازم للتعافي من الوباء الذي أصابها وأصابنا أيضًا." تقول جمعة.
أُجبرت العائلة المكونة من 13 فردًا على النزوح مرة أخرى برفقة الحيوانات إلى مدينة دير البلح على مساحة ضيقة واجهت فيها تحديات كبيرة.
تفتت داليا الخبز وتقدمه للقرود والببغاوات داخل الأقفاص وتعلق: "تغير سلوك الحيوانات وتأثرت بالحرب إلى درجة كبيرة من أصوات الانفجارات، وظهرت عليها علامات الخوف والبكاء والعنف، إضافة إلى الجروح والكسور التي أثرت سلبًا على تعاملها مع بعضها".
تصمت داليا متنهدة: "لم أكن أتوقع أن نعيش مع الحيوانات في المكان ذاته نتقاسم الطعام نفسه. توقظنا بأصواتها في الليل وأتحدث معها ونتقاسم الوجع ذاته. أصابني الخوف من التعامل معها حين فتكت بها الأمراض الجلدية والحساسية التي انتقلت إلينا، ولم يتوفر أي نوع من الأدوية أو العقاقير الطبية".

لم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بتدمير وتجريف حديقة الحيوان ومحاصرة الحيوانات وتجويعها، بل سرقها. وأوضحت: "مع عودتنا المؤقتة للاطلاع على مدينة رفح، لم نجد أي أثر للحديقة ولا للحيوانات، حتى الأسود التي تركناها. لم نجد أي أثر لرفاتها. بعد التقصي، أخبرنا بعض التجار في معبر كرم أبو سالم أنهم شاهدوا صناديق مغلقة وسمعوا زئير أسود — تلك الأسود التي كانت تشكل ثروة حيوانية تُقدّر بأكثر من نصف مليون دولار".
وعن الدافع الذي يجعل داليا تستمر في حماية الحيوانات والحفاظ عليها تقول لـ"الترا فلسطين": "الحيوانات أرواح ضعيفة بحاجة للرعاية والاهتمام. تواصلت مع مؤسسات دولية عدة لكن لم أتلق أي رد بشأن إجلائها إلى الخارج ووضعها في محميات طبيعية".
مع وقف إطلاق النار، غمرت الفرحة داليا على نجاتها ونجاة بعض الحيوانات، وتختتم حديثها: "يراوِدنا الأمل بالعودة إلى رفح وإعادة بناء الحديقة وجلب الحيوانات وجعلها محمية طبيعية يأتيها الزوار ويلتقطون الصور ويستمتعون بأجوائها".
بالرغم من الخسارة والفقد، أشعلت حرب الإبادة في قلب داليا عشقًا لا ينطفئ للاعتناء بالحيوانات ومساندة عائلتها للوقوف من جديد.