بيسان

عامان على الحرب: غزة تنهض وتكتب وجعها من جديد

المصدر تقارير
عامان على الحرب: غزة تنهض وتكتب وجعها من جديد

بعد عامين على إحدى أكثر الهجمات دموية في تاريخ غزة الحديث، لا تزال الحرب حاضرة في كل شيء: في الركام الذي لم يُرفع، وفي الوجوه التي غيّرت ملامحها الفقد، وفي يوميات الناجين الذين يعيشون بين أطلال البيوت وحطام الداخل. لا زمن يمر هنا كما ينبغي؛ فالوقت لا يضمد الجراح، بل يفاقمها.

في مخيّم خانيونس، جنوب القطاع، تجلس أنهار سكيك، 38 عامًا، داخل خيمة مؤقتة لا تقي من حرّ الصيف ولا برد الشتاء. بعد نزوحها من حيّ الرمال في غرب غزة، تحاول لملمة شتات حياتها بعد أن فقدت كل شيء. تصف بمرارة لحظة الانهيار بقولها: "بيتي ما كانش مجرد جدران، كان ملاذي، ذاكرة عائلتي، رائحة أطفالي وهم بيكبروا. في لحظة، صار رماد".

تغيرت حياة أنهار جذريًا منذ ذلك اليوم. بعد أن فقدت منزلها، تنقّلت بين مراكز الإيواء، تبحث عن مأوى يحفظ كرامتها ويوفّر الحدّ الأدنى من الأمان. لكن الاستقرار ظلّ غائبًا. تقول بحسرة: "أصعب شيء مش بس إنك تفقد بيتك، الأصعب إنك تفقد الإحساس بالأمان، وتحس إنك صرت غريب بكل الأماكن".

بعد عامين على إحدى أكثر الهجمات دموية في تاريخ غزة الحديث، لا تزال الحرب حاضرة في كل شيء

لكن المعاناة لم تتوقف عند فقدان البيت، بل امتدت إلى النفس التي لم تعد كما كانت. تصف أنهار تأثير الحرب على صحتها النفسية: "الحرب دمّرت توازننا النفسي تمامًا. صرنا نعيش في حالة خوف دائم. ما في راحة ولا شعور بالأمان. كل صوت عالي بيذكرنا بالقصف، وكل خبر ممكن يفتح جرح جديد".

ثم تكشف عن الفقد الأصعب الذي غيّرها من الداخل: "فقدت أمي وأخي في الحرب. كانت صدمة فوق أي وصف. أحس كأني فقدت جزءًا مني ما بيرجع. بعدها صرت أعيش حالة من القلق المستمر، والأرق، والخوف، وكل شيء صار يذكّرني بالمأساة".

تلفت أنهار إلى أن هذا الألم لا يقتصر عليها وحدها، بل يعمّ كل من حولها: "الناس كلها متعبة نفسيًا. الكل بيخفي وجعه بابتسامة مصطنعة، بس الحقيقة إننا من الداخل منهارين".

وتشير إلى أن الأثر النفسي انعكس أيضًا على النسيج الاجتماعي الذي تضرّر بفعل الحرب: "العلاقات الاجتماعية تفككت. كل واحد شايل وجع أكبر من طاقته. ما عدنا نتحمّل بعض".

ورغم كل ما عاشته وتعيشه، لا تزال أنهار متمسّكة بشيء يشبه الإصرار، وإن لم يكن أملًا بالمعنى التقليدي. تختتم حديثها بنبرة تجمع بين الألم والعزيمة: "يمكن ما نملك رفاهية الأمل، بس نملك الإصرار. ما بنعيش... إحنا بننجو".

مرام الأحول، ابنة الـ25 عامًا، خريجة إعلام، كانت قد بدأت لتوّها أولى خطواتها المهنية قبل أن تعصف بها الحرب فتجرّها إلى واقع لم تستعدّ له. تقول: "كان شعورًا استثنائيًا أن أحصل على وظيفة بعد التخرج… في غزة، هذا أشبه بالفوز في معركة".

لكن فرحة البداية لم تدم. مع اندلاع الحرب الأخيرة، انهارت المؤسسة التي كانت تعمل بها، وتوقفت الحياة كما كانت تعرفها. توضح مرام: "أصبحت الكهرباء شبه معدومة، المياه مقطوعة منذ أشهر، وحركة التنقل محفوفة بالمخاطر. لم نعد نعيش حياة طبيعية. حتى الذهاب إلى السوق صار قرارًا يحتاج إلى حسابات دقيقة".

ومع تراجع كل أشكال الحياة المدنية، تحوّل بيت العائلة إلى ملاذ ضيق لا يتسع لأحلامها. تُكمل: "أقضي أيامي في الأعمال المنزلية. فرص العمل تبخرت، وحتى المبادرات البسيطة للعمل عن بُعد اصطدمت بواقع العزلة الرقمية. العمل من المنزل فكرة جميلة، لكنها غير قابلة للتطبيق هنا… التكنولوجيا لا تعمل في الظلام".

المنزل الذي تسكنه مع أسرتها في منطقة الزوايدة وسط قطاع غزة تضرّر جزئيًا بفعل القصف. رمموه بما توفر، لكن آثار الحرب لم تكن مادية فقط. تقول مرام بصوت متهدج: "نبدو متماسكين، لكننا في الداخل متعبون. الخوف أصبح جزءًا من يومنا، والقلق لا يغيب حتى عندما يسود الهدوء".

وعلى الرغم من ما وصفته أنهار عن تفكك العلاقات الاجتماعية بسبب الضغوط، ترى مرام وجهًا مختلفًا: "نعم، نحن أكثر إنهاكًا، لكننا أيضًا أقرب إلى بعضنا البعض. نتقاسم القليل، ونخفف عن بعضنا ما استطعنا. في غزة، التكاتف لم يعد خيارًا، بل ضرورة يومية للبقاء".

وعن مستقبلها، تقول: "نريد فقط حياة آمنة، بيتًا لا نخشاه، وأيامًا لا تُهدد فيها الحياة." وهي لا تنسى الشعور الثقيل بالتجاهل العالمي: "في البداية كان العالم يتحدث عنا، ثم خفت الصوت… لكننا ما زلنا نأمل أن يسمع أحد هذا الصوت".

في زاوية أخرى من خانيونس، يتأمل سامي رضوان، 41 عامًا، أب لأربعة أطفال، الغياب أكثر من الحضور: غياب البيت، والأمان، وحتى المعنى. يقول متأمّلًا: "كل شيء تغيّر بعد الحرب، ليس فقط شكل الحياة، بل روحها. لم نعد نعيش كما كنا، بل نعيش كما لا نريد، على الهامش، بلا ملامح".

منذ فقد منزله، أصبحت الخيمة كل ما يملكه. لا تقي حرًا ولا بردًا، لكنها المأوى الوحيد له ولأطفاله. يصف الوضع قائلًا: "نعيش على ما يمكن أن نسميه فتات الحياة… نحصل على الماء بشق الأنفس، وننتظر الكهرباء كمن ينتظر معجزة. أحيانًا نقضي ساعات فقط لشحن هاتف أو جهاز صغير".

لكن التحدي الأكبر بالنسبة له ليس فقط صعوبة المعيشة، بل استمرار المعاناة دون أفق. يتساءل بصوت متهدّج: "كيف أُربي أطفالي؟ كيف أوفّر لهم تعليمًا أو مستقبلًا؟ لا دخل، لا عمل، وحتى المدرسة تحوّلت إلى مكان رمزي. لا كتب، لا معلمين، فقط محاولات للتشبث بما تبقّى".

يؤلمه عجزه أمام أسئلة أطفاله اليومية. يقول بحسرة: "يسألونني كل يوم: متى سنعود؟ متى تنتهي الحرب؟ ولا أملك جوابًا. أبتسم وأعدهم بشيء لا أعلمه. أحاول أن أبدو قويًا، لكنني أكثرهم خوفًا… من القادم، من الجوع، من صاروخ يسقط دون إنذار". وعن النزوح، يروي سامي تجربته. يشرح: "ظننا أن الحرب ستنتهي وتعود الأمور. لكنها لم تنتهِ، ولم يعد شيء. نعيش في حالة نزوح وقلق دائم، وكأننا عالقون في لحظة لا تنتهي. الخيمة سكن، لكنها ليست حياة".

ورغم كل ذلك، لا يزال يتمسّك بشيء من الأمل. يقول بأمل خافت: "ربما المستقبل غامض، لكن إن توقفت الحرب، يمكننا أن نبدأ من جديد. نبني بيتًا، مدرسة، حياة. لا نطلب الكثير… فقط أن يتوقف هذا الجحيم". ثم يصمت، يحدّق بعيدًا، ويهمس وكأنه ينادي العالم: "لا نعرف إن كان أحد ما زال يسمع صوت غزة. العالم صمت، لكننا ما زلنا هنا. ننتظر، نحلم، ونحاول أن نصمد… فقط لأجل أطفالنا".