بيسان

أزمة الفِكّة في غزة.. حربٌ أخرى تُنهك الجيوب وتكشف انهيار الاقتصاد

المصدر تقارير
أزمة الفِكّة في غزة.. حربٌ أخرى تُنهك الجيوب وتكشف انهيار الاقتصاد
سماح شاهين

سماح شاهين

من غزة مهتمة بالشأن السياسي والاجتماعي والعربي والدولي

مع نهاية العدوان الإسرائيلي، يستمر تدهور الأوضاع الإنسانية والاقتصادية بشكل غير مسبوق، ظهرت أزمةُ الفِكّةِ المعدنية لتطفو على السطح؛ فقد بات الحصولُ عليها أمرًا بالغَ الصعوبة نتيجةَ توقفِ عملِ البنوكِ، وانهيارِ النظامِ الماليِّ، وتقييدِ الحركةِ على المعابر.

ومع ارتفاع نسبة العُمولة وغياب الضّبط، لجأ بعضُ التجار والأفراد إلى بيع الفِكّة مقابلَ عُمولاتٍ مرتفعةٍ تجاوزت في بعضِ الحالات 20 بالمئة من قيمتها الأصلية، ما زاد من الأعباءِ على المواطنين الذين يعيشون في ظروف قاسية من الحرب والدمار والنزوح.

عن تبعات أزمة الفِكّة على المواطنينِ في غزة، قال المحللُ الاقتصاديُّ أحمد أبو قمر لـ"الترا فلسطين"، إنّ هذه الأزمة تُفقدُ المواطنينَ جزءًا من أموالهم بشكلٍ مباشر؛ فمن يريدُ الحصول على فِكّةٍ مضطرٌّ لخسارةٍ تصلُ إلى 20 بالمئةٍ من ماله

وتُعتبر أزمةُ الفِكّة واحدةً من المؤشرات على انهيار البنية الاقتصادية في القطاع، وغياب الرقابة، واستغلال الحاجة الماسة للنقود في أبسط التعاملات اليومية، ما يستدعي تسليط الضوء على أبعادِها الاجتماعية والاقتصادية، ومناقشةَ الحلول الممكنة في ظلِّ هذا الواقع المعقّد.

في صباحٍ مزدحمٍ بأصوات الحرب والناس، خرجت ربا عاشور (29 عامًا) من خيمتها غربَ ديرِ البلحِ وسطَ قطاعِ غزة متجهةً إلى السوقِ لشراءِ مستلزماتهم الأساسية. أوقفت سيارةُ أجرةٍ كغيرِها من الركاب، لكنها لم تكن تعلمُ أن ورقةً نقديةً واحدةً ستحوّل يومَها إلى مواجهةٍ غيرِ متوقعة.

تخبرُنا ربا: "ركبتُ السيارة، وأعطيتُ السائقَ ورقةَ عشرين شيكلًا؛ نظرَ إليها وقال: هذه مهترئة، لا أقبلها.” قلتُ له إنها صالحةٌ ولا مشكلةَ فيها، لكنه أصرّ وطلبَ مني أن أنزلَ إذا لم يكن لدي فِكّةٌ".

تضيفُ لـ"الترا فلسطين" بمرارة: "شعرتُ بالإهانة، كأنّي أدفع بورقة لعبة، ليست عملةً رسمية. نزلتُ من السيارة غاضبةً؛ ليس فقط لأنّه رفضَ الورقةَ، بل شعرتُ كأنّي مكسورةٌ، عاجزةٌ عن أبسطِ الأشياء". هذه ليست المرّةَ الأولى التي تواجهُ فيها ربا هذا الموقف، مردفةً: "كلُّ يومٍ يصير نفسُ الشيءِ، مع السائق أو البقال أو الصيدلية؛ إذا لم يكن معكَ فِكّةٌ أو ورقةٌ جديدةٌ، لا أحدَ يأخذها. طيبَ ماذا نفعل؟ هل نطبعُ أموالًا من عندنا؟".

تختتمُ حديثَها: "نحنُ لسنا فقط تحتَ الحصارِ والقصفِ، نحنُ أيضًا محاصرون بورقةٍ نقديةٍ قديمةٍ؛ كلُّ شيءٍ في غزة أصبحَ يحتاجُ واسطةً، حتى الفِكّةُ".

جزءٌ من المعاناةِ

سامي شاهين يعملُ بدوامٍ جزئيٍّ في أحدِ المحالِّ التجاريةِ غربَ غزة، ويكافحُ يوميًّا لتأمينِ مستلزماتِ منزله وسطَ الأزمةِ الماليةِ والحربِ المستمرة. ورغم بساطةِ مطالبه اليومية، فإن مسألةَ "الفِكّةِ" باتت جزءًا من معاناته.

يروي لـ"الترا فلسطين": "ذهبتُ لأشتري أمورًا بسيطةً من سوبرماركت؛ كان الحسابُ 9 شيكل، أعطيتُه ورقةَ 20، فقال لي: لا أملكُ فِكّةً؛ يا أن تشتري زيادةً أو ترجعَ وتحضرَ مَصارف فِكّةٍ". يتابع متأففًا: "اضطررتُ لشراء بسكويتٍ زيادةً كي أكمل العشرة شيكل، يعني اشتريتُ شيئًا لا أريده، فقط لأتخلص من المشكلة".

لا يخفي سامي استياءَه من الواقع: "كلُّ يومٍ نفسُ القصةِ؛ المحلاتُ، السياراتُ، حتى الصيدلياتُ يطالبون بالفِكّة، وإذا لم يكن معك فِكّةٌ يعاملونك كأنك المخطئ، مع أنّ المفروضَ أنَّ التاجرَ هو الذي يوفرُ الفِكّةَ، لا الزبون".

ويختم قائلًا بغضب: "الحربُ دمرت البيوتَ، لكنها أيضًا دمرت تفاصيلَ حياتنا؛ حتى المالُ لم يعد يعملُ كالسابق؛ بات توفيرُ الفِكّةِ يكلّفُ بشراءٍ بعُمولةٍ تجاوزت الـ20 بالمئة، أي أنّ الخمسين شيكلًا قد تُباعُ فِكّتها مقابلَ 35 شيكلًا فقط".

نحنُ أيضًا ضحايا

في شوارعِ غزة المكتظةِ رغم الحربِ، يقودُ محمد نوفل (47 عامًا) سيارةَ الأجرةِ التي تعيلُه هو وعائلتَه منذ أكثرَ من 15 عامًا. وسطَ نقصِ الوقودِ وغلاءِ المعيشة، يواجهُ يوميًّا مشكلةً جديدةً هي الفِكّةُ.

يقول محمد لـ"ألترا فلسطين": "صرتُ أخشى أخذَ ورقةٍ نقديةٍ من الراكب إذا كانت ممزقةً قليلًا أو قديمةً، لأن التجارَ لا يقبلونها، وأضطرُّ لأن أبدّلها بخسارة، وإذا طلبتُ من الراكبِ فِكّةً يَغضبُ ويظنّ أنني أتستفزه".

يتحدث عن مواقفَ يوميةٍ متكررةٍ: "قبلَ يومين، أعطتني امرأةٌ عشرين شيكلًا، وكانت الورقةُ مقطوعةً قليلًا من الطرف؛ قلتُ لها لا أستطيعُ قبولها لأنّ لا أحدَ يأخذها مني؛ نزلتْ وهي غاضبةٌ، لكن ماذا أفعل؟ أنا لا أطبعُ نقودًا، وإذا أردتُ تبديلها أخسرُ 3 أو 4 شيكلٍ عُمولةً".

يوضح أن الأزمة أثّرت على سمعةِ السائقين: "الناسُ تظنّ أننا جشعون، لكننا أيضًا نخسر؛ أحيانًا أعملُ طوالَ اليومِ وفي النهايةِ أجدُ أنَّ لدي أوراقًا لا يقبلُها أحدٌ، فيبدو أنني عملتُ بلا أجر". ويختتمُ حديثَه بحسرةٍ: "في الحربِ، كلُّ شيءٍ يصبحُ معاناةً، حتى الشيكُلُ صارَ حلمًا؛ نحنُ لسنا ضدَّ الناسِ، نحنُ معهم، لكن الوضعُ خانقٌ للجميع".

تبعات الأزمةِ

عن تبعات أزمة الفِكّة على المواطنينِ في غزة، قال المحللُ الاقتصاديُّ أحمد أبو قمر لـ"الترا فلسطين"، إنّ هذه الأزمة تُفقدُ المواطنينَ جزءًا من أموالهم بشكلٍ مباشر؛ فمن يريدُ الحصول على فِكّةٍ مضطرٌّ لخسارةٍ تصلُ إلى 20 بالمئةٍ من ماله، بمعنى أنّ من يحملُ ورقةً نقديةً قيمتُها 100 شيكلٍ قد يحصلُ مقابلها فقط على 70 شيكلًا من الفِكّةِ.

وأشار أبو قمر إلى أنّ المشكلةَ لا تقفُ عند هذا الحدّ؛ فبسببِ ندرةِ الفِكّةِ يضطرُّ المواطنُ إلى صرفِ المبلغِ كاملًا حتى لو لم يكن بحاجةٍ لكلِّ ما يشتريه، مما يدفعه لاقتناءِ سلعٍ غيرِ ضروريةٍ أو لم يكن يخططُ لشرائها أساسًا، مؤكّدًا أنّ هذا استنزافٌ مباشرٌ لجيوبِ المواطنينَ وخسارةٌ لأموالهم دون وجهِ حقّ.

وبيّن أنّ أزمةَ الفِكّةِ ليست مجرد مشكلةٍ نقديةٍ بسيطةٍ، بل هي شكلٌ من أشكالِ الضغطِ على المواطن، مثلها مثل المجاعةِ وارتفاعِ الأسعارِ الجنونيِّ الذي شهدناه في الأشهرِ الماضية؛ إنها جزءٌ من الحربِ الاقتصاديةِ التي تُشنُّ بالتوازي مع الحربِ العسكريةِ على قطاعِ غزة.

وأكد أبو قمر أن الحربَ الاقتصادية قد تكونُ أصعبَ على المواطنِ من القصفِ، لأنّها تضربُ كرامتَه وتؤثرُ على نفسيتَه وتُحرجُ ربَّ الأسرةِ الذي يعجزُ عن توفيرِ أبسطِ احتياجاتِ عائلته.