بيسان

ذاكرة الخيمة: كيف يحافظ النازحون على ملامح بيوتهم في المنفى الداخلي؟

المصدر تقارير
ذاكرة الخيمة: كيف يحافظ النازحون على ملامح بيوتهم في المنفى الداخلي؟
أنوار هنية

أنوار هنية

صحفية من غزة

في غزة، يواصل الفلسطينيون محاولة إعادة بناء حياتهم من العدم. فوسط النزوح المستمر وتبدّل أماكن الإقامة، يسعى كثيرون إلى استعادة ما فقدوه ليس بالحجارة، بل بالتفاصيل الصغيرة التي تحمل ملامح البيوت المدمَّرة. صورةٌ على جدار خيمة، أو قطعة قماش من ستارة قديمة، أو عطرٌ يذكّرهم بغرفةٍ غابت جدرانها—كلها رموزٌ تحافظ على استمرارية الحياة وتقاوم النسيان.

تحت الخيام، لا يعيش الناس فقط واقع اللجوء المؤقت، بل يبتكرون أشكالًا من الذاكرة تُعيد إليهم شيئًا من إحساس البيت والانتماء. في كل خيمةٍ قصةٌ عن محاولةٍ لتثبيت ما تبقّى من الذات في وجه التهجير المتكرر، وعن قدرةٍ إنسانية لافتة على التكيّف وصون المعنى في قلب الفقد.

الخيمة، رغم صغر حجمها وبساطتها، تتحول إلى مساحة لإعادة بناء الهوية والعلاقات الاجتماعية، وتحاول العائلات من خلالها إعادة إنتاج الحياة التي فقدوها

ومن بين هذه القصص، تبرز حكايات لأشخاصٍ يحاولون تحويل الخيمة إلى امتدادٍ لذاكرتهم، كما يفعل محمد هنية 33 عامًا الذي لم يحمل من بيته سوى رائحة عطرٍ وصورةٍ عائلية، يضعها في منتصف كل خيمةٍ يسكنها، كأنها جواز عبورٍ إلى حياةٍ كانت له يوماً.

محمد، الشاب الذي كان يستعد لبداية حياته الزوجية، فقد بيته الذي كان يجهّزه بحبّ وتفاصيل صغيرة تحلم بها كل روح مقبلة على الأمل. تركه قسرًا تحت وطأة النزوح والدمار، ولم يتمكّن من حمل شيء معه سوى زجاجة عطرٍ كان يحبها كثيرًا، وصورةٍ تذكاريةٍ محفورة على الخشب تجمع أفراد عائلته، بعضهم غيّبه الموت، وآخرون فرّقتهم المنافي.

منذ ذلك الحين، ترافقه الصورة في كل خيمةٍ ينتقل إليها، يضعها في منتصف المكان كأنها عنوانه الوحيد، وجزءٌ من هويةٍ يحاول التشبّث بها وسط التشتّت. أما العطر، فكلما نفدت رائحته التي اعتادها قبل الحرب، يبدأ رحلة بحثٍ جديدة عنها في الأسواق، كمن يفتّش عن بقايا حياةٍ مضت، أو يحاول استعادة نفسه من ذاكرةٍ امتلأت بالغياب.

على مقربةٍ من خيمة محمد، تعيش حبيبة، الطفلة ذات الأعوام الستة، التي لم تحمل من بيتها سوى لعبتين صغيرتين: دميتها "كيتي" وبيتٍ بلاستيكيٍّ مصغّر كانت تقضي معه ساعاتٍ طويلة قبل الحرب. في لحظة النزوح، تمسّكت بهما كأنهما ملاذها الأخير، ورفضت أن تتركهما خلفها مهما كان الثمن.

منذ ذلك اليوم، ترافق "كيتي" و"البيت الصغير" حبيبة في كل مخيمٍ تنتقل إليه. تضع الدمية بجانب وسادتها، وتُعيد ترتيب البيت البلاستيكي في كل خيمة جديدة، كما لو أنها تُحاول أن تُعيد بناء بيتها الحقيقي بيديها الصغيرتين. لا تدرك تمامًا معنى الفقد، لكنها تعرف أن وجود تلك اللعبتين يمنحها شعورًا غامضًا بالأمان، وكأنهما يُبقيان على خيطٍ رفيعٍ يربطها بالمكان الذي غادرته.

صونٌ للذاكرة

في قصة حبيبة، كما في قصص كثير من أطفال النزوح، تتجلّى محاولة فطرية لصون الذاكرة من الاندثار؛ فحتى في الخيام الباردة، يخلق الأطفال مساحاتهم الخاصة من الدفء والحنين، ويحوّلون ما تبقّى من ألعابهم إلى بيوتٍ رمزية تحفظ ملامح حياتهم الأولى.

وفي ملاذٍ آخر من ملاجئ النزوح، لجأت عائلة أبو محمد عليوة إلى خيمةٍ صغيرة في أحد المخيمات بعد أن دُمّر منزلهم بالكامل. لم يحملوا معهم شيئًا سوى أرجوحةٍ حديديةٍ قديمة كانت تتدلّى في فناء بيتهم، ظلّت بالنسبة لهم رمزًا للحياة التي فقدوها. نصبوها أمام الخيمة الجديدة، كأنها قطعة من الماضي ترفض الرحيل، أو جسر يربطهم بما كان يومًا بيتًا نابضًا بالضحكات.

تبدو الأرجوحة في وسط الرمال كجسمٍ غريب، لكنها بالنسبة للعائلة جزءٌ من ذاكرتهم الجماعية؛ هناك كان الأطفال يتناوبون على اللعب، وكانت الأم تجلس قربهم تراقبهم وهي تُعدّ الشاي. اليوم، حين يتحرّك الحديد المعلّق في الهواء، يتردّد معه صدى البيت القديم، ويشعر أفراد العائلة بأنهم ما زالوا على قيد الذكرى، حتى وإن تغيّر المكان.

تفاصيل باقية

يؤكد الدكتور يوسف عوض الله، طبيب نفسي، أن التفاصيل الصغيرة التي يحرص النازحون على الاحتفاظ بها، سواء كانت صورة عائلية، لعبة طفل، قطعة قماش، أو رائحة عطر، ليست مجرد أشياء مادية، بل رموز حية للهوية والذاكرة والانتماء.

يشرح عوض الله: "حين يبتعد الإنسان عن بيته، تتلاشى المألوفات المحيطة به بسرعة، وتصبح الأشياء الصغيرة هي الرابط الوحيد مع حياته السابقة. الأطفال يتمسكون بلعبتهم لأنها تمثل أمانهم وحنينهم، والبالغون يحرصون على صور أو روائح تعرفهم على حياتهم الماضية، وتذكّرهم بالروابط الاجتماعية والأحاسيس التي فقدوها. هذه التفاصيل الصغيرة تمنح شعورًا بالاستمرارية، وتخلق مساحة للتواصل النفسي مع الذات والماضي، وتزرع بذور الأمل والقدرة على مواجهة المستقبل رغم الدمار."

ويضيف عوض الله: "التمسك بهذه الرموز لا يعني رفض الواقع، بل هو استراتيجية تكيفية طبيعية؛ تساعد الناس على الصمود النفسي، وتجعلهم قادرين على إعادة ترتيب حياتهم، واستعادة معنى للحياة وسط الفقد والنزوح."

تثبيت هوية

ويفسر يوسف عوض الله أن فقدان البيت يترك أثرًا مزدوجًا: نفسيًا واجتماعيًا حيث يشعر الأطفال بانعدام الأمان وتتبدل لديهم مفاهيم الاستقرار؛ قد يظهر ذلك في القلق، الكوابيس، أو صعوبة التكيف مع الروتين الجديد، وقد يتحمل البالغون صدمة مزدوجة: فقدان المكان الذي يربطهم بالعائلة والذكريات، وفقدان دورهم التقليدي في حماية البيت والعائلة. وبالتالي فإن التمسّك بالأشياء الصغيرة يصبح وسيلة للتمسّك بالهوية والحفاظ على شعورهم بالكفاءة الذاتية.

ويستدرك عوض الله أن الذكريات الصغيرة تعمل كأدوات لإعادة ترتيب الذات وتثبيت الهوية، فالأطفال يجدون فيها الأمان والراحة، ويعبرون من خلالها عن شعورهم بالفقد، بينما يستعيد البالغون عبرها إحساس البيت والانتماء، وتصبح وسيلة للحفاظ على الروابط الاجتماعية والنفسية.

خلق روابط اجتماعية

وتشير الأخصائية الاجتماعية نور أبو غنيمة، إلى أن النزوح وفقدان المنزل لا يؤثران على الأفراد وحدهم، بل على البنية الاجتماعية للأسرة بأكملها، وفقدان البيت يفرض تغييرات على أدوار الأسرة التقليدية، حيث تضطر الأمهات إلى تحمل مسؤوليات المعيل، بينما يتعلم الأطفال المشاركة في مهام لم يكونوا مألوفين بها سابقًا. رغم ذلك، فإن العائلات تبحث عن طرق للحفاظ على تماسكها، مستخدمة الرموز المنزلية الصغيرة، مثل الألعاب والصور والقطع القديمة، التي تصبح أدوات لإعادة خلق روابط اجتماعية مستمرة داخل المخيمات.

وتضيف أبو غنيمة أن الخيمة، رغم صغر حجمها وبساطتها، تتحول إلى مساحة لإعادة بناء الهوية والعلاقات الاجتماعية، وتحاول العائلات من خلالها إعادة إنتاج الحياة التي فقدوها، وتنظيم أدوارها بطريقة تمنح كل فرد شعورًا بالأمان والانتماء.

كما تؤكد أبو غنيمة أن الأطفال يتكيفون تدريجيًا مع البيئة الجديدة عبر اللعب والأشياء الرمزية، التي تساعدهم على التواصل مع الآخرين وفهم الروتين اليومي، وتخفف شعورهم بالغربة عن المجتمع المحيط. وبالنسبة للمجتمع والمنظمات الإنسانية، توضح أبو غنيمة أن دعم النازحين اجتماعيًا يجب أن يراعي الحفاظ على الروابط الأسرية والتقاليد المجتمعية، بحيث تساهم البرامج في تعزيز التماسك الاجتماعي وليس استبداله، مع التشديد على أهمية الرموز المنزلية والذكريات في تقوية الروابط العاطفية والعائلية، والحفاظ على القيم والتقاليد خلال البعد عن البيت الذي استبدل بخيمة.