بيسان

صامدون حتى الأنفاس الأخيرة.. أصوات المُحاصرين النّاجين في غزَّة

المصدر تقارير
صامدون حتى الأنفاس الأخيرة.. أصوات المُحاصرين النّاجين في غزَّة
أميرة نصَّار

أميرة نصَّار

صحافيّة وكاتبة من غزَّة

يعلو سماء مدينة الساحل المحاصرة أزيز الطائرات والمسيرات المتفجرة، فيما لا يتوقف هدير القذائف الإسرائيلية عن السقوط على مبانيها وشوارعها المنطفئة من فوضى وأصوات ساكنيها. سرعان ما تخطف أم عدّي طافش أقدامها إلى سوق مفترق السرايا لتشتري لأطفالها الثلاثة ما يُبهج يومهم من حلوى المصاص الملونة.

تحدّثت الأم الثلاثينية بنبرة هادئة، كاتِمةً صرخاتِ الألم التي عاشتها لعدة أيام محاصرة بين جدران بيت لا يشبه بيتها، وتقول: "مش قادرة أطلع وأترك غزّة التي وُلدت فيها، وقضيت فيها أحلى أيام عمري الـ35 عامًا، بين مدارسها وجامعاتها وبحرها، وزواجي وإنجابي لأطفالي؛ هي روحي ما بتركها".

حتى اللحظات الأخيرة من إعلان وقف إطلاق النار، يعيش الناجون المحاصرون والمفصولون شمالًا وجنوبًا آثار الوجع التي لا تزال تنبض في شوارع المدن المنكوبة وقلوب من نجوا

تقاطع حديثنا وتَسأل صاحب بسطة البصل عن سعر البصلة، فيُجيب بنبرةٍ حازمة: "25 شيكلًا". تُكمل مسارَ طريقها، وتقول: "أوحشنا خروج عائلتي وأصدقائي، وحزم الناس أمتعتهم على مدار اليوم والليلة في حيّ الرمال الذي نزحنا إليه بعد نسف بيتنا، وعلى مقربةٍ منا كان يضيء وهج الروبوتات المتفجرة التي تخلع القلب برعبها، فيما كانت تتوالى علينا الاتصالات والمناشير الإسرائيلية مطالبةًنا بالنزوح على الفور نحو الجنوب".

تصل أم عدّي البيت، فيحتضنها أطفالها وتمنحهم نصيبهم من حلوى المصاص، وتستكمل حديثها: "لا يوجد أي مقومات للصمود؛ فنحن محاصرون من جميع الجوانب، لكن نحاول أن نصمد بما هو متوفر من طعام قمنا بتخزينه وماء نقتصد فيه تخوفًا من الأيام القادمة، بينما تتواصل والدتايّ دائمًا معي وتخبرانني بأخذ الحيطة والحذر في البيت والمحافظة على أطفالي".

يسأل "الترا فلسطين"، الأم عن سر صمودها رغم ما عاشته هي وأسرتها، فتجيب: "أستمد قوتي من الله على بقائي هنا في غزّة، وزوجي الطبيب الذي رفض أن يترك عمله في المشفى ليبقى مع المرضى ويؤدي واجبه الإنساني، وأطفالي الذين لا يتوقفون عن الدعاء بانتهاء الحرب. ويوميًا أُكافئ صمودهم وصبرهم بطهي ما يحبون من الطعام وأشاركهم اللعب والتلوين الذي يلهون به".

على الدراجة الهوائية، يتنقّل المصور الصحفي خميس الريفي (23 عامًا) بين أحياء المدينة المحاصرة والمفصولة شمالًا وجنوبًا، ممارسًا عمله بين زخات الرصاص الإسرائيلي والأحزمة النارية، كمصور فريلانسر مع عدّة وكالات عالمية.

ويقول: "طالعٌ حاملٌ كاميرتي، وحاططٌ روحي على كفّي، أتنقّل بين شرق وغرب وشمال مدينة غزّة، التي بات التحرك فيها بالغ الخطورة، مع تكثيف الاحتلال الإسرائيلي ضرباته وتقدمه على الأرض، مما ضاعف من عبء المهام الصحفية والمسؤوليات مع محاصرة المدينة وفصلها شمالًا وجنوبًا".

ويسعى المصور الصحفي الريفي إلى لفت انتباه 111 ألف متابع عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "إنستغرام" إلى حياة ومعاناة مدينة غزّة من التجويع والنزوح والدمار، وقصف الأبراج السكنية وتشريد ساكنيها. قائلًا: "قمتُ بالتغطية الميدانية منذ بداية حرب الإبادة على القطاع، وحرصت على التواجد في وسط المدينة، من يساري حيّ النصر والآليات الإسرائيلية المتقدمة، وعلى يميني حيّ تلّ الهوا والروبوتات المتفجرة، فيما تطلق مسيرات الكوادكابتر طلقاتها وتُسقط ألغامها على البيوت وكل من يتحرّك في الشوارع".

أخرج الريفي عائلته نحو الجنوب خوفًا عليهم، وأبقى نفسه وكاميراته وعدساته داخل حقيبة ليسهّل حركته في التنقل بين أحياء المدينة المحاصرة. من الخلف تُسمع أصوات الانفجارات، ويستكمل الريفي: "أعمل على مدار الساعة طالما يرتكب الاحتلال الإسرائيلي الجرائم بحق المدنيين وزملائي الصحافيين، ويتعمّد أن لا تُنقل صورُنا للعالم. أوثقها وأنشرها للعالم لكي يرانا ويسمعنا".

وعن السبب الذي يدفع الريفي للمخاطرة ونقل صور غزّة يجيب لـ"الترا فلسطين": "أخاطر لأن مدينة غزّة تستحق أن تُنقل صورها وجرائم الاحتلال التي يرتكبها بحق الضحايا. رسالتي إلى العالم أن يلتفت إلينا ويوقف شلال الدم؛ نحن بشر، لنا الحق أن نحيا في مدينتنا بشوارعها وزرقة بحرها ودفء جوّها".

يقف الرائد محمود بصل (38 عامًا)، الناطق باسم الدفاع المدني بمدينة غزّة، بوجهٍ شاحبٍ وجسدٍ هزيل، حاملًا بين أنامله الأطفال الناجين من المجازر، ويناشد العالم بصوتٍ مختنقٍ بالعبرة على مدار الساعة. ويتابع: "لم أترك غزّة وحدها منذ بداية الحرب، حتى في الفصل الأول لمدينة غزّة شمالًا وجنوبًا، وأيضًا في الفصل الثاني الذي بات الأصعب والأقسى، والتهديدات أكثر، والخوف والظروف قاهرة. وفي أي لحظة أنا عرضة للاستهداف والقتل ودخول القوات الإسرائيلية إلى عمق المدينة، لكن رغم ما مررت به من انقطاع الكهرباء والإنترنت المأساوي، أواصل عملي".

يواجه الصامدون في شمال مدينة غزّة حصارًا مطوّقًا بلا أدنى مقومات للصمود. وعن تدبير الحياة يقول أحدهم: "سبق وخضت تجربة الإضراب عن الطعام، وهذا ما منحني الصبر للمرحلة التي أعيشها اليوم، حيث أحصل على وجبة واحدة تكفيني في ظل الواقع والعجز والحصار المفروض على منع إدخال الطعام. نمت داخل المقابر وفي الشوارع لعدم وجود مكان آمن، ولا أريد أن أكون سببًا في قتل الضحايا، فعملي إنساني وقضية قتلي واردة من الاحتلال الإسرائيلي".

منذ عامين على بدء حرب الإبادة على قطاع غزّة وحتى اللحظة، لم يتوقف الرائد محمود بصل عن ممارسة عمله الميداني والتنقل في أماكن الألم، من المخيمات والمشافي والمدارس وأماكن النزوح. ويضيف: "أعمل على مدار 24 ساعة ولا أمنح نفسي سوى أقل من خمس ساعات نوم أو أقل. أصعب ما يفعله الاحتلال قتل النساء والأطفال والشباب بالجملة وبقائهم يصرخون. صمودي وبقائي في المدينة ليس من أجل تسطير بطولة رمزية، إنما لعدم إفراغ المدينة من السكان ولو بالعدد القليل. الناس هنا تنظر إلينا على أننا أبطال، وأريد أن أخرج ويسجل في التاريخ سبب نزحي ونزوح المدنيين وانهيار المدينة".

أطلق الاحتلال الإسرائيلي رسائل وإشاعات تشويه وتهديدية بحق الناطق باسم الدفاع المدني من أجل إسكات صوته وحجبه ومنعه من نقل رسالته الإنسانية عن المدينة المحاصرة المُبادة. ويعقب، أن "الموت هو ما يشعرني بالقلق؛ ليس خوفًا من الموت، إنما أتمنى أن أكون رسولًا لكشف جرائم الاحتلال الإسرائيلي وفضحه. ولا يحق للاحتلال بأي شكل من الأشكال أن يسكت صوتي. حتى بعد قصف منزلي ونجاة عائلتي سأواصل رسالتي وأوصل مناشدات وأصوات ضحايا المدينة المُبادة".

حتى اللحظات الأخيرة من إعلان وقف إطلاق النار، يعيش الناجون المحاصرون والمفصولون شمالًا وجنوبًا آثار الوجع التي لا تزال تنبض في شوارع المدن المنكوبة وقلوب من نجوا.