قصف الاحتلال قبل أيام، مربعًا سكنيًا يعود لعائلة بكر في مخيم الشاطئ، شمال غرب مدينة غزة، جاء ذلك بعد ساعات من طلب جهات إسرائيلية، من مختار العائلة، التعاون مع الجيش الإسرائيلي، من خلال إنشاء قوة مسلحة تسيطر على مكان تواجدها، مقابل بقاء أبناء العائلة في مكانها.
أعاد القصف، التذكير في سلوك القوى الاستعمارية، التي اعتمدت على أدوات عدة لاختراق المجتمعات المستهدفة، متجاوزة مجرد احتلال الأرض إلى تقويض اللحمة الاجتماعية وإحداث شروخ عميقة تضعف قدرة هذه المجتمعات على الصمود. وفي السياق الفلسطيني، لم تكن إسرائيل استثناءً، حيث برز تجنيد المتعاونين المحليين كإحدى أبرز استراتيجياتها، وهي وسيلة تتراوح بين الإغراء والضغط والإكراه.
ربط المرصد الأورومتوسطي رفض العائلات للتعاون بتصاعد الهجمات الانتقامية. فبعد يوم واحد من إعلان عائلة بكر رفضها التعاون من الجيش الإسرائيلي، تعرضت لمجزرة في مخيم الشاطئ
وفي قطاع غزة، وعلى وقع حرب الإبادة، ظهرت عدة عصابات مسلحة في أنحاء القطاع، تتلقى تمويلًا وتسليحًا من الجيش الإسرائيلي، ويقدم الحماية لها، في السيطرة على مربعات سكنية وأحياء كاملة، وتعمل تحت غطاء الطيران الإسرائيلي.
خلفية تاريخية: من روابط القرى إلى ميليشيات غزة
محاولات الاحتلال لتفكيك المجتمع الفلسطيني ليست وليدة الحرب الحالية. ففي أواخر السبعينات وبداية الثمانينات أنشأت إسرائيل ما عُرف بـ"روابط القرى" في الضفة الغربية، وهي مجالس محلية هدفت إلى إدارة شؤون الفلسطينيين اليومية، تحت سلطة الاحتلال، وتحويلها إلى قيادة تتحاور معها السلطات الإسرائيلية، ضمن السعي إلى عزل منظمة التحرير. ورغم محاولة تسويقها كأطر مدنية، فإنها تحولت إلى أدوات أمنية لضبط المجتمع وكسر أي رفض للاحتلال. واجهت هذه الروابط رفضًا شعبيًا واسعًا وانتهت بالفشل تحت ضغط الرفض والمقاطعة المجتمعية. اليوم، يُعاد إنتاج المنطق نفسه في غزة عبر تشكيل ميليشيات محلية مدعومة من الاحتلال، في محاولة لضرب البنية الاجتماعية وتكرار تجربة قديمة بثوب جديد.
خلال عامي القصف والإبادة المتواصلين، شهد قطاع غزة تجلّيًا مقلقًا لهذه السياسة. فقد ظهرت مجموعات وأفراد علنًا كواجهة لسياسات اختراق مُدارة بعناية، لا تقل أهمية عن العمليات العسكرية المباشرة. تهدف هذه السياسة إلى تحويل السكان إلى أدوات لخدمة أهداف الاحتلال. أسماء وصور هؤلاء الأفراد والمجموعات، التي تتجول مسلحة في ظل الحرب المفتوحة، أصبحت مألوفة في رفح وخانيونس، مما يعكس محاولة واضحة لتحويل أبناء القطاع إلى مرآة لرغبات الاحتلال أو مصدر معلومات لتعزيز سيطرته على الحياة اليومية.

الوقائع الميدانية: ظهور الميليشيات المحلية
تؤكد مصادر إعلامية، منها تقارير صحيفة هآرتس والقناة 12 الإسرائيلية، بالإضافة إلى توثيقات ميدانية لمنظمات حقوقية كـ "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان"، ظهور مجموعات مسلحة محلية في مناطق متفرقة من قطاع غزة. تتركز هذه المجموعات بشكل خاص في رفح وخانيونس وأجزاء من حي الشجاعية وبيت لاهيا، وتعمل بالتنسيق المباشر مع الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن العام (الشاباك).
تُكلف هذه المجموعات بمهام استخباراتية وأمنية حساسة في المناطق التي أفرغها القصف من عناصر الفصائل الفلسطينية. تشمل هذه المهام جمع المعلومات عن مواقع المقاومة، ومراقبة المناطق المُفرغة، وتأمين نقاط تجمع النازحين جنوب القطاع. هذه الأدوار تهدف إلى تعزيز قدرة القوات الإسرائيلية على التحرك البري وتأمين مناطق نفوذ محلية، مما يخدم الأهداف التوسعية للاحتلال.
تسليح وتمويل
في محاولة لتبرير تسليح هذه الميليشيات، زعمت القناة 12 الإسرائيلية أنها لا تتلقى أسلحة "إسرائيلية نظامية"، بل تُجهز بأسلحة مصادرة من مخازن الفصائل الفلسطينية واللبنانية أو أسلحة عُثر عليها لدى جهات أخرى، في محاولة لتصوير الأمر على أنه "غنائم حرب". إلا أن تقارير أخرى تفضح هذه الرواية، مشيرة إلى حصول أفراد هذه التشكيلات على رواتب شهرية وتصاريح لحمل السلاح من الجيش الإسرائيلي، مما يؤكد الارتباط الوثيق والدعم المباشر من قبل الاحتلال.
سياسة الابتزاز الإسرائيلية
يكشف المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان عن سياسة ابتزاز إسرائيلية خطيرة تستهدف العائلات الفلسطينية في غزة، حيث تُجبر على الاختيار بين خيارين كارثيين: إما التعاون مع قوات الاحتلال وميليشياتها، أو مواجهة القتل الجماعي والتجويع والتهجير القسري. وقد تصاعدت هذه الممارسات لتتحول من ابتزاز فردي إلى ابتزاز جماعي منظم، يهدف إلى تفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني عبر إجبار الأسر على خيانة مجتمعها أو التعرض لعقوبات مميتة.
مجازر انتقامية: عائلتا بكر ودغمش نموذجًا
ربط المرصد الأورومتوسطي رفض العائلات للتعاون بتصاعد الهجمات الانتقامية. فبعد يوم واحد من إعلان عائلة بكر رفضها التعاون من الجيش الإسرائيلي، تعرضت لمجزرة في مخيم الشاطئ أسفرت عن استشهاد تسعة من أفرادها. كما وثّق المرصد قصفًا استهدف أحياء سكنية لعائلتي دغمش والديري في حي الصبرة، مما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء. وقد فقدت عائلة دغمش وحدها أكثر من ستين فردًا بعد رفضها التعاون مع الاحتلال.
استهداف الوجهاء والمخاتير
لم تقتصر محاولات الاستمالة على العائلات فحسب، بل امتدت لتشمل المخاتير والوجهاء الذين عُرضت عليهم المساعدات مقابل التعاون. لكن رفضهم الشديد لهذه العروض جعلهم هدفًا للاستهداف المباشر. هذه الوقائع تجسد معادلة مروعة تواجهها العائلات: إما الانخراط في تشكيلات تقوض روابط المجتمع، أو مواجهة شبح القتل والنزوح.
يروي مختار عائلة بكر، مروان بكر، كيف تواصلت معه قوات الاحتلال مباشرة، عارضةً على عائلته البقاء في غزة مقابل التعاون. لكن الرفض كان فوريًا وحاسمًا: "نحن ندرك أن الاحتلال يمارس القتل والتهجير منذ عقود طويلة، ولم يكن يومًا خيارنا أن نكون أدوات بيده. تاريخنا شاهد أننا لم نتعاون معه ولن نفعل، مهما كانت الظروف". وقد دفعت العائلة ثمن هذا الموقف بقصف منازلها وإجبارها على النزوح تحت النار.
بدوره، أكد نزار دغمش، رئيس مجلس عائلة دغمش، أن الاحتلال حاول ابتزازهم بعروض مشابهة، لكن العائلة رفضت بشكل قاطع. وصرح: "قد نختلف في تفاصيل حياتنا الداخلية، لكن أمام الاحتلال نحن صف واحد. لا يمكن أن نساوم على أرضنا أو شعبنا". وأضاف: "عائلتنا ترى أن الموت أهون من أن تُسجَّل في تاريخها وصمة خيانة، وسنظل جيلًا بعد جيل نرفض التعاون مع هذا المحتل مهما اشتدت الضغوط".
بعد هذا الرفض الصريح، واجهت العائلتان تصعيدًا ميدانيًا مباشرًا، حيث استهدفت الغارات الإسرائيلية منازلهما ومربعاتهما السكنية، مما اضطرهما إلى الخروج تحت القصف والنزوح. هذه الرحلة القاسية تختصر محاولة الاحتلال تحويل خيار البقاء إلى ثمن من الكرامة، بينما يصر الأهالي على أن الكرامة أثمن من الحياة نفسها.
إرغام المدنيين على التعاون: جريمة دولية
يؤكد الدكتور أحمد العويطي، الخبير في القانون الدولي، أن إجبار المدنيين في غزة على الانخراط في ميليشيات تتبع قوات الاحتلال يشكّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني. ويشير إلى أن إرغام المدنيين على تقديم خدمات عسكرية لقوة معادية أو المشاركة في عمليات قتالية لصالحها يندرج ضمن الأفعال المجرّمة بموجب المادة (8/2/أ/5) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
ويضيف العويطي أن العائلات التي ترفض هذه العروض تظل محمية قانونًا بصفتها مدنية، وأي استهداف لها كعقاب على هذا الرفض يشكل خرقًا واضحًا لالتزامات إسرائيل كقوة احتلال بموجب اتفاقيات جنيف الرابعة. ويشدّد على أن هذه الممارسات قد تُصنّف كجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية إذا تبين أنها جزء من سياسة منهجية تستهدف تفكيك المجتمع الفلسطيني عبر الترهيب والإكراه.
بعد القصف، ثمّن التجمع الوطني للقبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية، مواقف العائلات في قطاع غزة التي رفضت كل محاولات الاحتلال لاستدراجها للتعاون أو العمالة تحت التهديد. وأكد التجمع أن تمسك هذه العائلات بكرامتها وهويتها الوطنية، رغم المجازر والضغوط، يمثل "درعًا يحافظ على وحدة المجتمع الفلسطيني ويقطع الطريق أمام مشاريع الاحتلال الهادفة إلى زرع الفتنة والتفتيت".
في هذا السياق، أشاد التجمع بموقف عائلة بكر التي أعلن مختارها رفضه القاطع لأي عرض إسرائيلي لتحويل أبنائها إلى أداة بيد الاحتلال، مؤكدًا: "لن نكون جزءًا من جيش العدو ولا من عملائه". واعتبر البيان أن هذه المواقف تعبر عن صلابة اجتماعية تشكل صمام أمان للشعب الفلسطيني وركيزة أساسية في مواجهة محاولات الاحتلال لتفكيكه.
ووفق تقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية، فقد "قامت الأجهزة العسكرية والأمنية الإسرائيلية منذ عدة أشهر بتسليح وتدريب مجموعات في غزة كقوات مساعدة محلية وبديلة لحماس، ولكن يبدو أن هذه الاستراتيجية اكتسبت زخمًا في الأسابيع الأخيرة".
وأشارت إلى عصابات تعمل جنوب القطاع، وتنسق بشكل وثيق مع القوات الإسرائيلية حول مواقع توزيع المساعدات تديرها مؤسسة غزة الإنسانية، وهي منظمة خاصة غامضة مدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل.
وقال مسؤول في إحدى وكالات الإغاثة الكبرى العاملة في غزة، عن الواقع في قطاع غزة، إنه في الشمال، لا أحد يتولى زمام الأمور، وفي المنطقة الوسطى، توجد عائلات نافذة وميليشيات صغيرة غير رسمية... وفي الجنوب، هناك عملاء إسرائيليون رسميون يحصلون على أسلحة وما إلى ذلك من الجيش الإسرائيلي. وأضاف: "القانون والنظام يتدهوران، والنسيج الاجتماعي ينهار، والناس في حالة يأس شديد، ويحاولون البقاء، ويتحول كلٌّ منهم إلى مصلحته الخاصة".
وتتمتع العديد من هذه الجماعات المسلحة بسجل حافل بنهب المساعدات أو ابتزاز مدفوعات الحماية من المنظمات الإنسانية وكذلك من الفلسطينيين الآخرين الذين يعيشون في غزة.
في تقرير حديث ، ذكرت منظمة "أكليد" المستقلة لرصد الصراعات أنها سجّلت منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 أكثر من 220 "حادث عنف داخلي فلسطيني أسفرت عن مقتل نحو 400 فلسطيني". وأضافت أن الضحايا كانوا ضباط شرطة، وزعماء عشائر وعصابات، ولصوصًا، وأفرادًا متهمين بالتعاون مع إسرائيل، وتجارًا متهمين بالاستغلال.
وأشار التقرير إلى أن "نهب المساعدات والسرقة والنشاط العنيف من قبل العصابات والعشائر والجماعات المسلحة أصبح منتشرا على نطاق واسع"، مضيفا أن ما يقرب من 70% من هذه الحوادث وقعت بعد انتهاك إسرائيل لوقف إطلاق النار لمدة شهرين في آذار/مارس 2025.