في استوديو صغير تزينه البالونات والألعاب القطنية، كان المصور الفلسطيني يحيى برزق يلتقط صورًا للمواليد الجدد، محوّلًا اللحظات الأولى من حياتهم إلى ذكريات تُعلّق على جدران البيوت في غزة. كان الأطفال ينامون بسلام أمام عدسته، بينما يبتسم هو بهدوء خلف الكاميرا، وكأن مهمته أن يزرع الفرح في زمن الحصار.
استُشهد يحيى برزق مساء الثلاثاء، 21 أيلول/ سبتمبر 2025، إثر غارة جوية إسرائيلية في شارع البيئة في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة
لكن الحرب غيّرت كل شيء. أُطفئت أنوار الاستوديو، وبدل أن يلتقط صورًا لبدايات الحياة، صار يوثق نهاياتها المؤلمة. عدسته، التي اعتادت على الألوان الناعمة والملامح الطفولية البريئة، وجدت نفسها تبحث وسط الغبار والركام عن ملامح الضحايا والشهود.
كتب يحيى عن بداياته على فيسبوك: "عندما بدأت رحلتي كمصور للأطفال والمواليد في غزة، كنت ألتقط صورًا تنبض بالأمل والحياة، أطفالًا جدد يزينون هذا العالم بابتساماتهم البريئة. كنت أحلم دائمًا أن أشارك قصتي السعيدة مع الجميع، وأقول لكم: مشاهدة ممتعة أتمنّاها لكم".
مع تصاعد القصف، تحولت عدسته إلى أداة توثيق للمأساة اليومية. وأضاف يحيى: "مع مرور الأيام وتحت وطأة الحرب، تحولت قصتي إلى شهادات حزينة… قصتي التي كنت أتمنى أن تكون ملهمة، أصبحت مأساوية تعكس وجع وطن".
وعن عمله الصحفي في الميدان، كتب في منشور آخر: "طوال فترة الحرب، حاولنا أن نوثق ولو جزءًا بسيطًا من معاناة الحرب والنزوح، إلى جانب عرض بعض المجازر التي خلفتها الحرب على غزة، وكيف تحولت عدستي من تصوير الأطفال في أجمل لحظاتهم إلى تصويرهم وهم يعانون من الإصابات والآلام".
وعن الأطفال الذين استشهدوا، قال: "كانوا جزءًا من نجاحنا. كل صورة تحمل قصة، وكل قصة تذكرنا ببراءة الأطفال الذين فقدوا حياتهم في حرب الإبادة… لن ننسى أنهم قُتلوا قبل أن يتسنى لهم رؤية صورهم. لنجعل أصواتهم تُسمع ولنعمل جميعًا من أجل السلام والحرية".
وقبل ثلاثة أيام من استشهاده، ودّع يحيى الاستديو الخاص به برسالة مؤثرة: "عدنا من النزوح الأول، وعدت إلينا طاقتنا وشغفنا. رجعت إلى الاستديو الذي أصبح بيتي الأول بعد أن دُمّر منزلي، وبدأنا بتجهيز كل شيء لنستأنف عملنا من جديد. لكن ما إن تنفّسنا الصعداء حتى عادت الحرب مرة أخرى، وبشكل أعنف من قبل. اليوم نُجبر على ترك الاستديو والنزوح مجددًا من مدينة غزة، لأعلن بذلك انتهاء حكاية ‘استديو يحيى برزق’، الاستديو الأول والوحيد في قطاع غزة المتخصص في تصوير الأطفال حديثي الولادة".
استُشهد يحيى برزق مساء الثلاثاء، 21 أيلول/ سبتمبر 2025، إثر غارة جوية إسرائيلية في شارع البيئة في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة. وأفادت مصادر صحفية بأن القصف أسفر عن استشهاد أربعة مواطنين، إضافة إلى الصحفي برزق، الذي كان جالسًا في مقهى كان يعرض فيه الصور التي التقطها.
من جانبه، أدان مركز حماية الصحفيين الفلسطينيين (PJPC) قتل المصوّر الصحفي يحيى برزق، مشيرًا إلى أنه كان قد نزح من مدينة غزة قبل أربعة أيام فقط بسبب العملية العسكرية الإسرائيلية الواسعة هناك. وأوضح المركز أن استهداف الصحفيين الفلسطينيين يأتي في سياق ممنهج يرقى إلى جريمة إبادة جماعية مهنية، مؤكداً أن استهداف الصحفيين يعد جريمة حرب تستوجب الملاحقة.
من جانبه، أفاد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بارتفاع عدد الشُّهداء الصَّحفيين الذين قتلهم الاحتلال منذ بدء حرب الإبادة الجماعية، إلى 254 صحفياً بعد الإعلان عن استشهاد الصحفيين يحيى برزق وسامي داود.
وأضاف أن الصحفي الشهيد يحيى محمد برزق يعمل مع عدة وسائل إعلام، فيما يعمل الصحفي الشهيد سامي داود في مرئية روافد.
وصدم رحيل الصحفي برزق الأوساط الصحفية والإنسانية، إذ نعاه زملاؤه بوصفه "مصور الطفولة الذي حمل عدسته من حضن الميلاد إلى قلب المأساة". وبرحيله، فقدت غزة مصورًا جمع بين عدسة الحياة وعدسة الحقيقة، تاركًا وراءه صورًا تختزن وجع مدينة بأكملها، ورسائل أخيرة تدعو للسلام وطفولة بلا خوف، لتظل كلماته الأخيرة شاهدة على وجع غزة وإصرارها على الحياة.