ألوانٌ متعددة من العذاب والمعاناة تعيشها آلاف العائلات النازحة في وسط وجنوب قطاع غزة؛ جوعٌ وفقرٌ يثقلان كاهل المشردين الذين اضطروا لمغادرة منازلهم في شمال القطاع ومدينة غزة، هاربين من المجازر الإسرائيلية والحملة التدميرية الواسعة، ودُفعوا إلى رحلة نزوح قسرية على طرق الموت.
وتجتمع قسوة الجوع المستمر، وارتفاع الأسعار غير المسبوق، مع الاكتظاظ السكاني الخانق وانعدام أماكن شاغرة للنازحين والخدمات الأساسية، لتشكّل واقعًا يوميًا يضاعف معاناة الأسر الباحثة فقط عن لقمة خبز وشيء من الأمان.
يواجه النازحون أزمة قاسية في إيجاد بقعة صغيرة من عدة أمتار لإقامة خيمتهم، بعدما اكتظت بالكامل مناطق وسط وجنوب القطاع
أزمات متلاحقة
لا تتوافر للنازحين حتى أبجديات الحياة الآدمية، إذ باتت مياه الشرب شحيحة وارتفعت أسعارها بشكل غير مسبوق خلال الأشهر الأخيرة مع تفاقم أزمة الوقود وتوقف عدد كبير من محطات تحلية المياه.
وتترجم هذه الأزمة نفسها في مشاهد يومية مؤلمة، حيث يقف النازحون في طوابير طويلة ومرهقة أمام عربات نقل المياه، بانتظار دور قد لا يأتي، إذ لا تكفي الكميات الشحيحة سوى لجزء بسيط من المحتاجين.
ولا تقتصر الأزمة على مياه الشرب فقط، بل تمتد لتشمل مياه الاستخدام المنزلي. فقد شلّت الحرب والحصار عمل البلديات، وزاد منع دخول الوقود من تفاقم الوضع، تاركًا مناطق واسعة يقصدها النازحون بلا أي مصدر للمياه. ونتيجة لذلك، يضطر النازحون إلى السير لمسافات طويلة للحصول على ما يسد حاجتهم من مناطق أخرى، فيما تُجبر كثير من العائلات على شراء المياه بأسعار تفوق قدرتها، لتتحول أبسط مقومات الحياة إلى عبء يومي جديد يُضاف إلى قائمة المعاناة.
ويواجه النازحون كذلك أزمة قاسية في إيجاد بقعة صغيرة من عدة أمتار لإقامة خيمتهم، بعدما اكتظت بالكامل مناطق وسط وجنوب القطاع. هذا الاكتظاظ دفع كثيرين إلى التوجه نحو مناطق شديدة الخطورة على حياتهم، مثل المناطق الشرقية والحدودية وحتى المحاذية لمحور "نيتساريم"، وهي أماكن لطالما تجنّبها سكان القطاع بسبب ما تشكّله من تهديد مباشر، إذ تصلها رصاصات الاحتلال وقذائفه بشكل متكرر.
وهكذا يجد النازح نفسه أمام خيارين: البقاء بلا مأوى في الطرقات، أو الاحتماء في مناطق تفتقد الأمان، وكأنه هرب من موت إلى موت آخر.
ومن جانبه، قال سليمان بكر إن الظروف المعيشية في النزوح وسط القطاع "غاية في السوء والتردي، فكل شيء يحتاج لتكاليف عالية للغاية؛ مكان وضع الخيمة يحتاج لاستئجار قطعة أرض، مياه الشرب تحتاج لسعر مرتفع، مياه الاستخدام اليومي تحتاج لدفع، الدواء غير متوفر مجانًا، وحتى استخدام المرافق الصحية (الحمامات) في بعض المناطق يحتاج لدفع المال".
وأضاف في حديثه لـ"الترا فلسطين": "أنا شخصيًا منذ عامين فقدت عملي ولم يعد لي مصدر دخل، ومع ذلك مطلوب مني توفير مبالغ كبيرة جدًا تفوق قدرة شخص موظف وله راتب شهري. فكيف لشخص عاطل عن العمل منذ عامين، يرافقه عائلة قوامها 12 فردًا يحتاجون للطعام والشراب والملابس وكثير من الأمور التي تفرضها ظروف النزوح علينا؟".
وشدّد بكر على أن أكثر ما يؤلمه هو عدم تعاون بعض سكان المناطق وعدم مساعدتهم، حيث يفرض البعض أجرًا على وضع الخيمة في أرضه، ويفرض آخرون ثمنًا لمن يأخذ المياه من بئره، بالإضافة إلى أشكال كثيرة من الاستغلال وغياب الرحمة بظروف الناس والنازحين.
كما قال: "أرسلت أطفالي للبحث عن أخشاب أو قطع بلاستيك في منطقة شرق مخيم البريج، وهي منطقة شديدة الخطورة، ولكن في حال أردنا شراء الحطب فإن الكيلو يبلغ ثمانية شواكل، وفي اليوم نحتاج إلى حوالي خمسين شيكلًا فقط للحطب، ونحن لا نملك هذا المبلغ، ناهيك عن ثمن الطعام والشراب والمياه والأدوية. فكل شيء يتطلب مالًا، ما يجعلنا نخاطر بحياتنا فقط لنعيش".
واستدرك قائلًا: "ما الذي يدفع الشبان للذهاب إلى مصائد الموت إلا الفقر والجوع وانعدام الطعام؟ لا أحد يخاطر بحياته وهو يملك رغيف خبز في منزله، لكن واقع النازحين اليوم، كما ترى، واقع مؤلم يدفعهم لاتخاذ خيارات أكثر إيلامًا".
الجوع يحاصر النازحين
تشتد وطأة المجاعة يومًا بعد يوم على سكان القطاع، ولا سيما النازحين الذين استنزفوا ما تبقى لديهم من مدخرات في دفع مبالغ طائلة لقاء انتقالهم القسري من الشمال إلى الجنوب. واليوم، ومع انعدام مصادر الدخل وانتشار الفقر، لم تعد كثير من العائلات قادرة حتى على شراء الطعام أو الطحين.
في المقابل، فإن عدد المطابخ الخيرية "التكايا" لم يشهد زيادة توازي حجم الحاجة المتصاعدة، ما جعل الطوابير أمامها أطول بكثير من إمكاناتها، وعجزها عن تلبية سوى جزء محدود من صرخات الجوع.
وفي هذا الوضع، يجد كثير من النازحين أنفسهم بلا طعام، فيما يحصل من يحصل على وجبة على كميات ضئيلة للغاية لا تكفي لسد حاجتهم، ولا يملكون أي بديل آخر.
وقال إبراهيم سويلم إن المجاعة زادت أكثر وبصورة أشد بعد موجات النزوح، حيث زاد الإقبال على التكايا وقلّ الطعام المتاح للنازحين، وفي المقابل ارتفعت الأسعار بشكل كبير يعجز معظم النازحين والمواطنين عن دفعها.
وأضاف في حديثه لـ"الترا فلسطين" أنه يضطر كل يوم، هو وأطفاله، منذ الساعة الثامنة صباحًا للاصطفاف على التكايا، ويتوزعون ليجلبوا ما يمكن توفيره من طعام لإطعام عائلته التي تتعدى العشرين فردًا، ومن بينهم أيتام وأبناء شهداء.
وأوضح سويلم أن معظم التكايا اليوم لا تعمل طيلة أيام الأسبوع، فبعضها يعمل يومًا واحدًا في الأسبوع وبعضها عدة أيام فقط، ولهذا يقضي معظم يومه في محاولة التنقل بحثًا عن طعام، وهم لا يملكون قدرة على توفيره بطريقة أخرى، وهذا حال آلاف النازحين من حولهم.
وتابع: "لا أعرف ماذا أقول لأطفالي عندما يعبرون لي عن جوعهم ويعجزون عن النوم وهم يبكون من شدة الجوع والإرهاق جراء التنقل في رحلة البحث عن الطعام. هذا الوضع لا يمكن أن يطيقه أي بشر، لذلك يجب على العالم أن يساعد أهل غزة، وأن ينظر إليهم ويوقف هذه المجاعة والحرب".
وطالب المؤسسات الدولية بتوفير المزيد من التكايا والطعام في مناطق وسط القطاع، مؤكدًا أن هناك مناطق كبيرة من المخيمات المستحدثة لا تصلها حصص من التكايا أو الطعام، إذ تذهب الحصص للمخيمات القديمة التي أُنشئت في العام الأول للحرب.

لا علاج
لا تقتصر معاناة النازحين على الجوع والعطش والفقر وانعدام الأمان، بل تتفاقم أيضًا مع تردّي الأوضاع الصحية وضعف الرعاية الطبية. فقد شكّلت موجة النزوح ضغطًا هائلًا على المنظومة الطبية في جنوب القطاع، التي كانت تعاني أصلًا من الإهمال والتدهور نتيجة سنوات الحرب المستمرة والحصار الخانق، لتصبح المستشفيات والمراكز الصحية عاجزة عن تلبية الاحتياجات الأساسية للنازحين، ما يزيد من حجم المعاناة اليومية ويهدد حياة آلاف الأسر.
أما أم محسن الشملة، فتقول إن الوضع الطبي والصحي في مناطق النزوح بالغ السوء، إذ اضطرت للخروج بعدما لم تتمكن من علاج ابنها في مستشفى ميداني بسبب ضعف إمكانياته، فتوجهت إلى مركز طبي آخر، حيث انتظرت ست ساعات حتى حان دورها، وسط اكتظاظ كبير.
وأضافت في حديثها لـ"الترا فلسطين": "راجعنا طبيبًا للأمراض الجلدية، وأوضح لنا أن سبب المرض هو التلوث والرطوبة في الخيمة، وطلب منا محاولة تغيير الخيمة وتحسين بيئتها ووضع حجارة أسفلها، لكن هذا ليس بمقدورنا. وعندما خرجنا كتب لنا بعض الأدوية".
وأوضحت أنها راجعت النقاط الطبية التابعة للأونروا بحثًا عن هذه الأدوية، فقيل لها إنها غير متوفرة منذ أشهر طويلة، رغم أن كثيرًا من النازحين يعانون من الأمراض الجلدية نتيجة ظروف النزوح والحشرات والتلوث والملابس القديمة وغير النظيفة. وعند ذهابها لشرائها، كان ثمنها أكثر من 300 شيكل، وهو مبلغ كبير جدًا لا تملكه، فيما الأدوية المجانية غير متوفرة.
ولفتت أيضًا إلى أن الجميع يتضرر من هذا العجز الطبي، ومن بينهم النساء الحوامل، اللاتي لا يتلقين الفيتامينات والمكملات الغذائية اللازمة، ولا يحصلن على المراجعة الطبية الدورية، ولا على الرعاية الضرورية لمتابعة أوضاعهن الصحية وأوضاع الأجنة، ما يزيد من المخاطر الصحية على الأم والطفل في ظل ظروف النزوح القاسية.
وبالتوازي مع هذه المعاناة الإنسانية الهائلة التي يعيشها النازحون في مناطق أعلنها الاحتلال "آمنة" في وسط وجنوب القطاع، نزحت العائلات بحثًا عن ملاذ يقيها الموت والقصف، لكن الاحتلال لاحقها بمجازره حتى في تلك المناطق.
وأعلن المكتب الإعلامي الحكومي أن الاحتلال الإسرائيلي قتل 3,542 شهيدًا منذ بدء العدوان البري على مدينة غزة، 44% منهم من الوسطى والجنوب، التي يزعم أنها مناطق "إنسانية آمنة". وبذلك ترتفع حصيلة الإبادة الجماعية إلى 66 ألف شهيد فلسطيني، مع وجود أكثر من 12 ألف مفقود تحت الأنقاض، بالإضافة إلى أكثر من 168 ألف مصاب.