بيسان

طبيبات فلسطينيات يروين لـ"الترا فلسطين" حكاياتٍ من ألم ودم

المصدر تقارير
طبيبات فلسطينيات يروين لـ"الترا فلسطين" حكاياتٍ من ألم ودم
أحلام حماد

أحلام حماد

صحافية فلسطينية

كانت نسرين صيام تتنقّل بين الجرحى الذين اكتظ بهم المستشفى، تواسي جريحًا وتضمد جروح آخر، بالكاد تلتقط أنفاسها من شدّة التعب والإرهاق. أنهكتها المشاهد الدامية جسديًا ونفسيًا من دون أن تعلم أنها ستصبح جزءًا من أحد هذه المشاهد.

"هذه حرب غير مسبوقة، وما نعاينه في المستشفيات من حالات أعتقد أن كثيرًا من أطباء العالم لم يشاهدوها طوال حياتهم"

في يوم من أيام الدم والآلام، وأثناء الاجتياح الإسرائيلي الثالث لمخيم جباليا شمال قطاع غزة، صُدِمت الدكتورة صيام بجثمان شقيقها محمد، وقد حمله المسعفون شهيدًا. تقول: "كانت الصدمة شديدة، إنه شقيقي. ورغم أنني شاهدت مئات بل آلاف الجرحى والشهداء منذ اندلاع هذه الحرب، وعايشت مواقف كثيرة من الألم والفقد، إلا أن الأمر يختلف كثيرًا عندما تكون أنت صاحب الوجع، ويأتيك فجأة ومن غير مقدمات".

بعد هذا الحدث الجلل، ومع اشتداد المجازر الإسرائيلية في مخيم جباليا ومناطق شمال القطاع، اضطرت صيام (40 عامًا) وأسرتها المكوّنة من ثمانية أفراد إلى النزوح نحو الجنوب. وبعد رحلة نزوح مريرة تنقّلت خلالها من مكان إلى آخر، تقيم نسرين اليوم في مدرسة بمخيم النصيرات وسط القطاع، وتعمل ضمن الكادر الطبي في مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح، المستشفى الحكومي الوحيد في المحافظة الوسطى.

نسرين صيام
نسرين صيام

ولم يكن استشهاد شقيقها محمد هو جرحها الوحيد، فقد عايشت صيام جرحًا آخر لم يندمل بعد، وتصفه بأنه لا يقل ألمًا عن الموت وفقد الأحبة، إذ فقدت آثار شقيق آخر لها ما يزال مصيره مجهولًا منذ اجتياح جباليا قبل أشهر. تضيف: "أرى صورة أشقائي في كل جريح وشهيد، ويتجدد الألم في كل لحظة، حيث مواكب الجرحى والشهداء لا تتوقف نتيجة المجازر اليومية الإسرائيلية".

هذه المشاهد اليومية تركت أثرها البليغ في نسرين صيام، التي تشعر بقلق دائم على أطفالها. تقول: "أعمل في المستشفى بنظام دوام 24 ساعة مقابل 3 أيام إجازة، من أجل البقاء أطول فترة ممكنة برفقة أطفالي ورعايتهم. ومن حين إلى آخر أثناء العمل لا أتوقف عن الاتصال بهم للاطمئنان أنهم بخير".

تجارب لم ندرسها في الكتب

للطبيبة أفنان أبو كويك (26 عامًا) حكاية وجع مماثلة، فهي فقدت أحد أشقائها البالغ من العمر 42 عامًا. تعمل أفنان في قسم الطوارئ بمستشفى شهداء الأقصى، وتقيم مع أسرتها المكوّنة من ثلاثة أفراد في منزلهم المدمّر جزئيًا بمخيم البريج.

أفنان أبو كويك
أفنان أبو كويك

تروي أفنان إحدى اللحظات القاسية "التي لن تفارقني بقية حياتي، عندما وصلتني أثناء وجودي في قسم العناية المركزة رسالة بوفاة والدي". وفي موقف آخر، فوجئت بابن شقيقها الشهيد مصابًا بجروح نتيجة غارة جوية إسرائيلية، وقد أحضرته سيارة إسعاف في حالة صعبة، "لكن عناية الله تدخّلت ونجا من الموت، كي يبقى سندًا لوالدته وأشقائه الأطفال".

وتوضح أفنان، الطبيبة حديثة التخرّج، أن التجارب الطبية والمهنية التي مرت بها خلال شهور الحرب لم تدرسها في كتب الطب. تقول: "هذه حرب غير مسبوقة، وما نعاينه في المستشفيات من حالات أعتقد أن كثيرًا من أطباء العالم لم يشاهدوها طوال حياتهم"، مشيرة إلى أن النساء والأطفال يشكلون غالبية ضحايا الحرب.

ليالي القلق

الطبيبة سها مغاري (27 عامًا) كانت على رأس عملها في المستشفى عندما حضر شقيقها تامر في سيارة إسعاف مصابًا بجروح خطيرة بنيران الاحتلال. تقول: "اضطر الأطباء لبتر ساقه. كانت لحظة صعبة للغاية، فلا يمكن أن أنسى مشهده وهو يتألم بشدة، وعندما خرج من غرفة العمليات مبتور الساق".

سها مغاري
سها مغاري

سها متزوجة وأم لطفلين، نزحت مع أسرتها من شمال القطاع مرات عديدة حتى استقرت في خيمة بدير البلح. وتصف النزوح بأنه "يعادل نزع الروح، ولا يقل ألمًا عن الموت، حيث التشرد والخوف وفقدان الأمن والخصوصية وأبسط مقومات الحياة".

ويتكفّل زوجها برعاية طفليهما بسبب غيابها لساعات طويلة في المستشفى، ثم تشاركه العمل عند عودتها. وتقول إن دوامها الليلي من أصعب ما تواجهه في الحرب، إذ يبقى القلق مسيطرًا عليها، ولا تتوقف عن الاتصال بزوجها بعد كل غارة أو انفجار للاطمئنان.

فيلم رعب

أما الطبيبة علا ماضي (26 عامًا) فاختارت الدوام الصباحي لعدم قدرتها على النوم بعيدًا عن طفليها، ولتجنّب المعاناة التي تحدثت عنها سها. ومنذ مغادرتها رفح عشية اجتياح المدينة في 6 أيار/ مايو 2024، خاضت علا، وهي أم لطفلين، تجربة النزوح المتكرر وحياة الخيام، قبل أن تنتقل للعيش في منزل بالإيجار في مخيم المغازي.

علا ماضي
علا ماضي

تقول علا: "طفلاي أغلى ما أملك، ولا أتوقف عن التفكير بهما طوال ساعات عملي في المستشفى. أشعر أن قلبي سيخرج من بين ضلوعي عندما أشاهد الأطفال الجرحى والشهداء، وبكاء الآباء والأمهات قهرًا". وتضيف: "كأطباء نعايش يوميًا مشاهد كأنها فيلم رعب حقيقي. متى سيتوقف هذا المسلسل الدموي القاتل؟".

تشعر علا بآلام في قدميها وعضلاتها نتيجة الضغط الشديد وساعات العمل الطويلة يوميًا. تقول: "لا يتوقف التعب عند حدود العمل في المستشفى، فعند العودة إلى البيت نكافح من أجل تدبير شؤون الأسرة من إعداد الطعام وغسل الملابس وغيرها من الأعمال المنزلية". وتضيف: "حياتنا كطبيبات معقّدة للغاية في ظل الظروف الطارئة، حيث لا تتوفر الكهرباء ولابد من إنجاز الأعمال اليومية خلال ساعات النهار".

وتتأثر ماضي بشدة لاستشهاد شبان في مقتبل العمر، خطفت نيران الاحتلال أرواحهم قبل أن تتحقق أحلامهم، فتركوا وراءهم أمهات وزوجات يعانين آلام الفقد ويواجهن ظروفًا قاسية.

ولا تنسى علا ماضي الليلة الأخيرة قبل نزوحها وأسرتها من رفح، عندما استيقظوا منتصف الليل على أصوات انفجارات هائلة ناجمة عن أحزمة نارية نفذتها قوات الاحتلال في مخيم الشابورة، رافقها إطلاق نار كثيف وإلقاء قنابل من طائرات مسيّرة صغيرة (كوادكابتر) في محيط منزلها. تقول: "اختبأنا في بيت الدرج (سلم البناية) ولم نستطع رفع رؤوسنا من شدّة الخوف حتى شروق الشمس. انطلقنا سيرًا لعدة كيلومترات نحو خان يونس من دون أن نتمكن من أخذ أي شيء معنا سوى الملابس التي نرتديها. لقد كانت ليلة من جهنم لا يمكن أن أنساها أبدًا، فقد كتب الله لنا أعمارًا جديدة".