بيسان

غزة بين النزوح والموت.. حكايات عائلات تُهجر قسرًا تحت القصف

المصدر تقارير
غزة بين النزوح والموت.. حكايات عائلات تُهجر قسرًا تحت القصف
محمد نشبت

محمد نشبت

كاتب صحفي من فلسطين

في قلب الكارثة، يتحول البشر إلى أرقامٍ في تقارير، والألم إلى روتين يومي، تخرج من غزة عبارة تختزل مأساةً لا يُدرك عمقها إلا من عاشها: "النزوح زي طلوع الروح". هذه ليست مجرد استعارة، بل هي شهادة على لحظة مفصلية حيث يصبح الفراق عن الأرض والبيت والأثر أشبه بمفارقة الحياة. فالنزوح هنا ليس انتقالًا من مكانٍ إلى آخر، بل هو اقتلاعٌ للجذور من تربةٍ تشبّت بها الذكريات والروح.

ظل سؤال "هننزح؟!"، يتردد كأنينٍ متواصلٍ على ألسنة أهل المدينة المنكوبة لأشهر، حاملًا في طياته مرارة الخوف من تكرار التجربة التي أنهكتهم على مدار عامين. كان سؤالًا يبحث عن إجابة تطفئ رعب المجهول، لكنه بقي معلقًا في هواء غزة الثقيل، محمّلًا بثقل الفقد والوجع.

في غزة، لم يعد النزوح خلاصًا، بل معبرًا آخر إلى الموت تحت القصف

النزوح القسري: خطة الاحتلال وأثرها الإنساني

وفي 8 آب/أغسطس الماضي، أقرت الحكومة الإسرائيلية خطة طرحها رئيسها بنيامين نتنياهو لإعادة احتلال قطاع غزة تدريجيًا، بدءًا بمدينة غزة التي تضم نحو مليون فلسطيني. ومع بدء تنفيذ الخطة، تحوّل السؤال عن النزوح إلى واقع مرير، وجاء الأمر بالإخلاء تحت وطأة القصف الكثيف، في مشهد يعيد إلى الأذهان مسيرات الإبعاد القسرية عبر التاريخ، لكن بوتيرة غير مسبوقة.

من هنا بدأت فصولٌ جديدة من المعاناة؛ فمن ذاق مرارة النزوح لأول مرة وجد نفسه في صدمةٍ لا ترحم، بينما حمل القدامى جراح الماضي المفتوحة ليواجهوا فصلًا جديدًا من النزوح القسري. وفي مساحة لا تتجاوز 4 كيلومترات عرضًا و6 طولًا، توزّعَ عشرات الآلاف بين مدارسٍ مكتظةٍ وخيامٍ مؤقتةٍ وعماراتٍ مهدمة، لتذوب الخصوصية وتغدو الكرامة رفاهيةً في رحلة البقاء.

نزوح جماعي بلا بدائل إنسانية

بحسب الأمم المتحدة، اضطر أكثر من 300 ألف فلسطيني للنزوح من مدينة غزة ومحيطها منذ بداية العملية العسكرية الأخيرة. ومع نزوح سكان شمال القطاع إلى المدينة، أصبح نحو مليون شخص في دائرة الخطر داخل غزة ومحيطها.

وتوزّعَ النازحون على مساحةٍ ضيقةٍ لا تتجاوز 4 كيلومترات عرضًا و6 طولًا في وسط القطاع، حيث تحوّلت مدارس الأونروا إلى مراكز مكتظة، إذ يصل عدد الأشخاص في بعض الفصول إلى أكثر من 70 فردًا. وانتشرت الخيام على أراضٍ فارغةٍ، بإيجاراتٍ تتراوح بين 3500 و5000 شيكل شهريًا، وهو مبلغٌ يفوق قدرة معظم العائلات التي فقدت مصادر رزقها، ليصبح النزوح تجربةً مزدوجةً بين فقدان البيت وارتفاع تكاليف المعيشة.

شهادات النزوح: وجع على لسان النازحين

يقول محمد الغلبان (45 عامًا)، الذي نزح مع أسرته المكوّنة من طفلين وزوجته وابنته وزوجها إلى المخيمات الوسطى قادمًا من تلّ الهوا، إن ما يعيشه اليوم لم يُخطر بباله يومًا: "في بداية النزوح الأول للحرب، اتَّفقتُ مع زوجِ ابنتي أننا لن نترك غزة وسنبقى في منزلنا مهما حدث. صحيح أننا خرجنا من البيت في كانون الثاني/يناير 2024 بسبب محاصرة الدبابات لنا، لكننا لم نغادر حيز مدينة غزة وعشنا كل ظروف القهر والخوف والجوع".

وأضاف: "هذه المرة مختلفة، الجيش أجبرنا بالقذائف على الخروج. استخدمت علاقاتي في الوسطى والجنوب لأوفر شقة لي ولعائلتي. وسط ندرة المعروض واستغلال الحاجة وجدت شقةً غير مجهزةٍ بثلاث غرفٍ ومطبخٍ وحمام بمبلغ 2000 شيكل، اتفقت مع صاحبها على دفعه مناصفةً بين التطبيق والكاش".

يتابع محمد أن معاناته لم تنته عند الإيجار: "خرجتُ بكل عفش بيتي من مدينة غزة، استغرق النقل أسبوعًا بعدما حجزت شحنًا مع جيراني. كنا ثلاث عائلات، دفع كل منا 5000 شيكل نقدًا، اشترط السائق أن تكون من فئة الـ(200 شيكل). وعندما وصلنا دير البلح اضطُررت إلى بيع جزء كبير من الأثاث والخشب والبلاستيك بالكيلو؛ لأن الشقة لا تتسع لنا جميعًا. كانت خسارتي كبيرة، لكن لا شيء أهم من أن أجد سقفًا يحفظ عائلتي وابنتي وزوجها بعيدًا عن الخيام".

وعلى طريق الساحل غرب القطاع، حيث تتزاحم العشرات من الأسر مشيًا أو في سياراتٍ أو عرباتٍ، تنحني الوجوه المنهكة والعيون دامعة. تقف سمية حمدان (35 عامًا) تلتقط أنفاسها وتقول: "نزلت من السيارة وقررت أن أسير على قدميّ. هذه أسرع للهروب… للهروب من بكاء العالقين في زحام الطريق، للهروب من أشواقنا وأحلامنا. غزة كانت واقعنا وحلّنا وترحالنا ومستقبل أولادنا، والخروج منها ليس سهلًا".

وتروي سمية أنها تنزح للمرة الأولى مع عائلتها كلها: "نجح زوجي ووالدي في حجز قطعة أرضٍ مسورةٍ ودفعنا فيها 4000 شيكل شهريًا رغم غلائها، لأنه ما من بديل. لا ماء ولا حمام ولا حتى غرفة خشبية. سنوزّع الخيام هناك. نحن ستّ عائلات: أنا وإخوتي وأهلي. تخيّل كم سنتكدس داخل الخيام، كم سندفع لإيصال المياه الصالحة للشرب. لا أعرف كيف سأنام في الخيمة ولا كيف سأحافظ على خصوصيتي. تقول لي سلفتي صاحبة النزوح المتكرر: ’هتتعوّدي’، لكني لا أعتاد. لا أعرف أن أعيش خارج منزلي".

وتضيف سمية، والدمع يسبق صوتها: "تجرعنا الحرب بكل قسوتها في بيتنا رغم المجاعة والقتل والتهديد ولم نغادر غزة. لكن هذه المرة كانت أشد. أطلقت الطائرات المسيّرة الرصاص علينا داخل البيت وقصف الجيش محيطنا بقذائف كثيرة فاضطررنا للخروج. أشعر أني قد أموت قبل أن أصل إلى خانيونس. ما زال قلبي هناك، معلّقًا على جدران بيتي، يهرول خلف خطوات أطفالي".

أما أنوار رامي (38 عامًا)، فتعيش في خيمةٍ بمدرسة أحمد الكرد في دير البلح بعدما نزحت للمرة الثانية: "مشاعري مختلطة. في المرة الأولى كان زوجي معي، لكن هذه المرة أنا دونه ودون ابني الذي خرج للعلاج بالخارج. أن تكون دون سندٍ أمرٌ ليس سهلًا، لكن ما يخفف عني هو أنني هنا بين عائلتي الممتدة. أغلب الخيام هنا صار بيني وبين أهلها عشرة عمر وجوع وعطش وخوف سنة ونصفٍ ليست قليلةً على أعمار الناس".

وتؤكد أنوار أن كلفة النزوح المرتفعة أجبرتها على بيع جزء من مصاغها لتؤمّن أجرة الرحيل إلى دير البلح: "نزوحنا هذه المرة كان أصعب وأغلى… كل شيء أصبح بثمنٍ مضاعف".

وتحت كل هذا، فإن جميع مناطق القطاع تتعرض للقصف، ولا يوفر جيش الاحتلال أي بدائل إنسانية للنازحين، على عكس مزاعمه، وهو ما يجعل كل عمليات الإخلاء والنزوح ضمن سياق جريمة حرب ممنهجة.

يقول محمد عفانة (50 عامًا)، الذي قرر البقاء في مدينة غزة رغم تصاعد القصف: "أنتقل من منطقةٍ لأخرى داخل المدينة منذ بداية الحرب، لكن النزوح بالنسبة لي أصبح شبه مستحيل. تكلفة النقل لكل عائلة تقارب 5000 شيكل، ومتوسط إيجارات الشقق في الوسط والجنوب يصل إلى 3000 شيكل، أما سعر الخيمة فقد وصل إلى 4000 شيكل. لا أملك هذه الأموال، ومع سماعي كثيرًا عن استغلال الملاك للنازحين والمستأجرين الجدد، كان البقاء خيارًا اضطراريًا. أقضي أيامي وأنا أراقب الدمار حولي، وأسعى لحماية أولادي في ظل مدينة تتحول إلى ساحة حرب يومية".

تعكس شهادة عفانة حجم الضغط الاقتصادي والمعيشي الهائل الذي يجبر السكان على البقاء في مناطق معرضة للقصف، وتجعلهم عرضةً لخطرٍ دائم، مما يحوّل خيار النزوح إلى معضلةٍ شبه مستحيلة، بين الموت في البيوت أو مواجهة التكاليف الباهظة للنزوح.

البعد القانوني: انتهاك صارخ للقوانين الدولية

يؤكد الخبير في القانون الدولي، محمد النحال، أن استمرار إسرائيل في حربها على قطاع غزة لمدة عامين، مع إجبار السكان على النزوح، واستخدام التجويع والتعطيش كسلاح حرب، وقصف مناطق المدنيين بشكل ممنهج، يشكل انتهاكًا واضحًا للقوانين الإنسانية الدولية: "تحت اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، تُحظر أعمال التهجير القسري للسكان المدنيين، ويُعتبر أي نقلٍ قسريٍ أو فرضُ ظروفِ حياةٍ غيرِ إنسانيةٍ جريمة حرب. كذلك، فإن المادة 33 من الاتفاقية تحظر العقوبات الجماعية، والمادة 55 تؤكد وجوب توفير الغذاء والماء والخدمات الأساسية للسكان المحتجزين في مناطق النزاع".

استمرار القصف على غزة، مع منع الوصول إلى الخدمات الأساسية، وفرض التجويع والتعطيش كسلاح لإرغام المدنيين على النزوح، يمثل خرقًا مباشرًا لكل هذه المواد. وفي ظل غياب أي مناطق آمنة وبدائل إنسانية حقيقية، تصبح عمليات النزوح القسري جزءًا من سياسةٍ ممنهجةٍ لإخضاع السكان المدنيين بالقوة، وهو ما يتفق مع تعريف جرائم الحرب وفق المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

ويضيف النحال: "الواقع يشير إلى أن المدنيين الفلسطينيين يعيشون خطرًا دائمًا على حياتهم وحقوقهم الأساسية، من دون أي حماية دولية فعّالة، وأن ما يحدث ليس مجرد حربٍ عسكريةٍ، بل محاولة إبادةٍ مدنيةٍ تدريجية عبر أساليبٍ ممنهجةٍ للنزوح القسري والتجويع والتعطيش."

في غزة، لم يعد النزوح خلاصًا، بل معبرًا آخر إلى الموت تحت القصف أو على طرق التهجير، فيما يقف العالم عاجزًا عن حمايتهم. وبين غياب الملاجئ وغياب العدالة، يبقى المدنيون وحدهم في مواجهة إبادةٍ بلا رادع.