بيسان

أطفال التوحد في غزة.. الحرب تمحو سنوات العلاج وتزرع الخوف

المصدر تقارير
أطفال التوحد في غزة.. الحرب تمحو سنوات العلاج وتزرع الخوف
سماح شاهين

سماح شاهين

من غزة مهتمة بالشأن السياسي والاجتماعي والعربي والدولي

يعيش أطفال التوحد في قطاع غزة واقعًا نفسيًا كارثيًا نتيجة الحرب الشرسة التي تشنها "إسرائيل" على القطاع منذ أكثر من عام ونصف؛ إذ تعرّضوا لانتكاسات خطيرة، فبعضهم عاد إلى مراحل تطور سبق وتجاوزها منذ سنوات، وبعضهم فقد القدرة على الكلام، وتفاقمت لدى آخرين نوبات الهلع والاضطرابات السلوكية.

في خيمة نزح إليها الطفل يزن العمصي (10 سنوات) في منطقة السودانية شمال غربي مدينة غزة، كان يتلقى جلسات علاجية للنطق والحركة وشهد تقدّمًا في حالته الصحية، إلا أنّ الحرب أعادته إلى وضع أسوأ.

تقول والدة يزن لـ"الترا فلسطين": "في جلسات العلاج كنا سعداء جدًا بتحسّن حالته؛ بدأ يتقبّل الأشخاص المحيطين به، ويكوّن جملًا بسيطة، وكنا نضحك معه وهو يشعر بالفرح، لكن الحرب جعلت حالته أسوأ مما كانت عليه سابقًا".

الحرب خلفت آثارًا مدمرة على الجميع، لكن أطفال التوحد يعانون تحديات إضافية. والنفسي لهم يتطلّب تدخلًا عاجلًا من المنظمات الإنسانية المحلية والدولية

وتضيف أنّه خلال الحرب وجد يزن نفسه بلا جلسات علاجية ولا أمان؛ فالإبادة في غزة لم تدمر الشجر والحجر والمدن فقط، بل دمرَت وهدّدت حياة الغزيين، بمن فيهم أطفال التوحد.

وتردف: "نحن نعاني مع يزن بشكل كبير، خاصة عند سماعه أصوات الانفجارات؛ نضطرّ للنزوح من مكان إلى آخر من أجله، على الرغم من أنه لا توجد مناطق آمنة في غزة. أحيانًا يضرب رأسه بالأرض، وأحيانًا يهرب من الخيمة ونفقده لساعات طويلة". وتعرب والدة يزن عن أملها بأن تنتهي الحرب كي يشعر طفلها بالأمان وتزول معاناته، وأن يعود إلى جلسات العلاج مرة أخرى.

لا يقتصر الأمر على يزن؛ فهناك عشرات الأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد الذين يعانون بسبب الحرب. من بينهم مجدي العطار (15 عامًا)، الذي فقد القدرة على الكلام مع أسرته ويقضي أوقاته في زاوية غرفته بمنزله المدمر في منطقة المخابرات شمال غربي مدينة غزة.

يروي والد مجدي لـ"الترا فلسطين"، أنّ نجله يواجه أخطر تهديد لبقائه النفسي والجسدي بعد انهيار مؤسسات الرعاية، وقلة المختصين والمتابعين، وانعدام خطط الطوارئ خاصّةً بأطفال التوحد، ناهيك عن تفاقم الاضطرابات السلوكية الناتجة عن القصف والنزوح.

ويُضيف: "ابني لا يستطيع النوم بسبب الأصوات العالية، ويصبح عدوانيًا عندما يسمع القصف. كان يتحسّن تدريجيًا بعد العلاج، ولكن مع بداية الحرب بدأ يعود إلى نفس السلوكيات التي تجاوزناها؛ لا أستطيع أن أشرح له ما يحدث أو أشعره بالأمان".

ويبيّن أنّ حالة مجدي ازدادت سوءًا؛ كان يخضع لجلسات علاجية مكثفة، ولوحِظ تقدّمٌ بطيء رغم فقدان الأمل في التعافي. لكن الآن، بعد غياب المؤسسات لأكثر من عام ونصف، تغيّر وضعه إلى الأسوأ، خاصة فيما يتعلق باضطراباته السلوكية.

ويشير إلى أنه حاول قدر استطاعته عرضه على جلسات علاجية خاصة، ولكنها باءت بالفشل بسبب النزوح والقصف المستمر في غزة. ويرفض الخروج إلى الشارع بعد أن رأى شهيدًا ملقى على الأرض في منطقته.

ويتابع: "كنا نحاول علاج مجدي من التوحد، لكن الآن بات هدفنا علاجه من آثار التوحد والخوف الذي عاشه في الحرب. حاولنا النزوح أكثر من مرة، ولكن إسرائيل لم تترك مكانًا آمنًا في غزة، خاصةً للأطفال".

ويلفت إلى أن مجدي وغيره من الأطفال دفعوا ثمَن الحرب: موتٌ وقلقٌ ورعبٌ ومرض. لا أحد ينقذهم مما عاشوه في غزة، وتزداد الحرب سوءًا بعد إعلان إسرائيل احتلال مدينة غزة.

تدهور صحي

أية عبد السلام أيضًا مصابة باضطراب التوحد وتعاني من سوء التغذية؛ لم تفهم معنى الحرب والجوع، لكنها بلغتها الصامتة تعبّر عن جوعها وخوفها بعدما كانت تتواصل لفظيًا عندما تحتاج شيئًا.

تقول شقيقة أية لـ"الترا فلسطين": "جاءت إليّ وهي تتخبط على بطنها؛ لم أفهم منها شيئًا. طلبت منها أن تعبّر بطريقة أخرى كي أفهم، فأحضرت لي طبقًا فارغًا من المطبخ؛ فهمت أنها جائعة، لكن المجاعة كانت أقوى. اضطُررت إلى الخروج إلى الشارع لجلب طعام من التكية لها قبل أن تتدهور حالتها". وتبين بصوت مكسور أن شقيقتها، رغم إصابتها باضطراب التوحد، كانت تستجيب أحيانًا لمن حولها، لكن مع الحرب تغيّرت حياتها تمامًا.

وتشير إلى أنّ روتين أية تغيّر؛ فقد تركت مركز التأهيل، ودُمّر منزلنا بطائرات الاحتلال منذ بداية الحرب، ونحن نازحون من شمال غزة إلى الجنوب. وبيّنت مؤخرًا أنها اكتُشف لديها زيادة في النشاط الكهربائي في المخ وعودة التشنجات، فضلاً عن صعوبة الحصول على العلاج لها.

وتوضح أنّه في ساعات الليل تُصدر أية أصواتًا غريبة عند سماع القصف، وتبدأ بضرب رأسها وتضع الغطاء على رأسها بسبب الخوف، وترفض أن يلمسها أحد، وتظلّ على هذا الحال حتى ساعات الصباح.

وتناشد شقيقتها بفتح المعابر ليسافرَ إلى الخارج كي تعيش بأمان وتستكمل مرحلة التأهيل، فتستعيد تواصلها مع عائلتها وأصدقائها كما كانت سابقًا.

يؤكد الأخصائي النفسي ضياء أبو عون أنه في ظل الحرب المستمرة في غزة، يواجه الأطفال، وخاصة أطفال التوحد، تحديات نفسية وصحية معقدة. هؤلاء الأطفال، الذين يعانون اضطرابات في التواصل والسلوك، يجدون صعوبة أكبر في التعامل مع الضغوط النفسية التي تفرضها الحرب، ما يضاعف تحدياتهم.

ويقول أبو عون لـ"الترا فلسطين"، إن حوالي 2% من الأطفال في قطاع غزة يعانون اضطرابات طيف التوحد، وهو ما يمثل أكثر من 10,000 طفل وفقًا لتقديرات غير رسمية. هؤلاء الأطفال يحتاجون إلى بيئة هادئة وداعمة لكي يتمكنوا من التفاعل مع العالم من حولهم، لكن الواقع في غزة مليء بالتحديات؛ فالتعرض المتكرر للصدمات والضغوط الحياتية الناتجة عن الحرب يشكل عبئًا إضافيًا عليهم وعلى أسرهم.

ويشير إلى أن الحرب تسببت في تدمير البنية التحتية للمجتمع، لكن الأثر الأكبر يقع على الجيل الصغير، وخاصة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. أصوات القصف والانفجارات المستمرة تؤثر مباشرة على حالتهم النفسية، مما يؤدي إلى تفاقم أعراض التوحد مثل العزلة والعصبية وتراجع مهارات التواصل.

ويُوضح أن الأطفال ذوي التوحد في غزة غالبًا ما يواجهون صعوبة في فهم أو التكيّف مع الأوضاع المتغيرة خلال الحرب، مما يرفع مستويات القلق والتوتر لديهم. كثير من هؤلاء الأطفال لا يستطيعون التعبير عن مشاعرهم أو فهم ما يحدث حولهم، ما يجعلهم أكثر عرضة للاضطرابات النفسية.

ويضيف أنه أمام هذه التحديات تسعى بعض المؤسسات المحلية والدولية لتقديم الدعم النفسي للأطفال ذوي التوحد في غزة، لكن الموارد المحدودة ونقص الأخصائيين يجعل من الصعب تقديم الدعم الكافي. إضافة إلى ذلك، أجبرت الحروب على إغلاق العديد من مراكز التأهيل التي كانت توفر الرعاية اللازمة لهؤلاء الأطفال.

ويشدد على أن هناك حاجة ملحّة إلى برامج علاجية مستدامة مخصّصة لأطفال التوحد، تهدف لتخفيف الأعراض النفسية الناتجة عن الحرب، إضافة إلى توفير أجواء هادئة ومستقرة تساهم في تحفيزهم على التواصل والنمو.

ويبيّن أن الحرب خلفت آثارًا مدمرة على الجميع، لكن أطفال التوحد يعانون تحديات إضافية. الوضع النفسي لهؤلاء الأطفال يتطلّب تدخلاً عاجلاً من الحكومة والمنظمات الإنسانية المحلية والدولية.

ويطالب المجتمع الدولي والمحلي بتقديم دعم شامل لأطفال التوحد وأسرهم لمساعدتهم على التغلّب على الضغوط النفسية التي يعيشونها في ظل هذا الواقع المؤلم.