بيسان

بضائع على الرفوف وجوع في البيوت: فتح معابر غزة لا ينهي المجاعة

المصدر تقارير
بضائع على الرفوف وجوع في البيوت: فتح معابر غزة لا ينهي المجاعة
محمد نشبت

محمد نشبت

كاتب صحفي من فلسطين

بإشارة واحدة من المستوى السياسي الإسرائيلي، فُتحت معابر قطاع غزة، لتتدفق بعدها السلع وتغرق الأسواق بالبضائع، في مشهدٍ احتفائي التقطه العالم. تناول الناس الجبنة والشاي لأول مرة بعد انقطاع تام دام ستة أشهر من المجاعة، وهي مجرد فصول من مأساة إبادة متواصلة تقترب من عامها الثاني.

وراء صور الأسواق "المزدحمة بالبضائع" في غزة، تختبئ معاناة لا تُرى: أمهات عاجزات عن تلبية أبسط رغبات أطفالهن، موظفون بلا رواتب يطاردون رغيف الخبز في مصائد الموت، وأسواق خاضعة لسطوة تجار كبار ينسقون تحت عين الاحتلال.

انشغلت وسائل الإعلام بأخبار التسهيلات على المعابر، وباعتراف الأمم المتحدة المتأخر بوجود مجاعة في مدينة غزة. لكن وراء الصور المثيرة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي للبضائع وهي تغزو الأسواق، ثمة قصة أعمق لم تُروَ.

فوراء هذه الصور "الجامدة"، تبقى أسئلةٌ إنسانية حرجة: ما الثمن الحقيقي لهذه البضائع؟ ومن يستطيع شراءها حقًا؟ وكيف يدبّر الناس أمر نقودهم في ظل ظروفٍ عصيبة؟ وهل فرح الجميع بدخول هذه السلع، أم أن الأمر اقتصر على فئة محدودة؟ وهل كانت هذه البضائع كافية لتغطية حاجة أناس عانوا الجوع لشهور؟

وفرة شكلية وأسعار فلكية

"البضاعة غالية يما".. بهذه الكلمات بدأت ليلى أبو سعدة، نازحة تعيش في مخيم النصيرات، حديثها وهي تحاول إقناع طفلها الصغير بعدم قدرتها على شراء بعض احتياجاته البسيطة من البسكويت والشيبس والأندومي.

تقول ليلى، التي فقدت زوجها في بداية الحرب ونزحت إلى أحد مراكز الإيواء: "دخلت بضائع كثيرة إلى الأسواق، لكنها ما زالت بعيدة عن متناول الأغلب. على الأقل أنا لا أستطيع توفيرها، فلا مصدر دخل لي سوى ما يتيسر من مساعدات يقدمها أهل الخير".

وتوضح بمرارة أن الأسعار باتت بلا ضابط ولا سقف: "الجبنة التي كانت تباع بشيقلين أصبحت بعشرة، والأندومي من شيقل واحد إلى 11، والبسكويت ارتفع ثمانية أضعاف حتى عن فترة الهدنة السابقة".

وتضيف: "هذه أسعار يعجز معظم سكان المخيم عن دفعها، وهي سلع ليست ذات قيمة أصلًا. أما فيما يخص الأساسيات كالطحين والزيت، فأنا أعتمد بشكل كامل على ما يوزع داخل المخيم أو ما يصلني من تبرعات فردية".

الرواتب المقطوعة ومصائد الموت

من جانبه، يروي أحمد مشمش، موظف حكومي نزح من خانيونس إلى النصيرات بعد تدمير منزله منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2024، قصة أخرى من المعاناة. ويقول: "منذ بداية الحرب لم تلتزم الحكومة بدفع رواتبنا بسبب الظروف الأمنية والضائقة المالية. اعتمدت على نظام الدفعات غير المنتظمة، وفي أقصى الحالات لم أحصل إلا على ألف شيقل".

ويضيف أن هذه المبالغ الهزيلة لا تكفي لتغطية احتياجات أسرته المكونة من ستة أفراد، ما اضطره إلى اللجوء لما يسميه "مصائد الموت" لتأمين القليل من الطحين والسكر والزيت وبعض البطاطا.

ويقول: "كنت أعلم أن الذهاب هناك يعني مخاطرة بالموت المجاني، لكن الجوع كافر"، مضيفًا أنه ما زال يضطر بين الحين والآخر إلى تلك المغامرات رغم فتح المعابر، إذ بقيت الأسعار مرتفعة للغاية. ويوضح أن فارق السعر بين الشراء نقدًا والشراء عبر المحافظ والتطبيقات الإلكترونية يزيد الطين بلة: "مثلًا، علبة الجبنة ثمنها 5 شواكل نقدًا و13 عبر التطبيق. وكيلو السكر 10 نقدًا و17 عبر التطبيق. وكيس الطحين 25 كيلو يصل إلى 250 شيقل على الأقل".

الفواكه والخضار.. رفاهية غائبة

أما أحمد طومان، من دير البلح، الذي يعمل في القطاع الصحي ويؤمّن دخلًا إضافيًا من عمل جانبي، فيؤكد أن ما يحصل عليه بالكاد يكفي لشراء بعض السلع، بينما تبقى الفواكه والخضروات خارج حساباته. يقول: "سعر الفواكه لا يقل عن 100 شيقل للكيلو، وفي حالات الشح يتضاعف. الخضار كذلك غالية جدًا".

ويشير إلى أن صورة "غزة التي تغرق بالبضائع" مضللة، إذ يساهم بعض المبادرين أو التجار في نشر صور لسلع معروضة بهدف تحقيق أرباح سريعة، دون النظر إلى أن أسعارها تفوق قدرة الغالبية. ويضيف: "يكفي أن تعرف أن بعضهم اشترى الدجاج المجمد قبل فترة بسعر تجاوز 120 شيقل للكيلو".

السوق تحت سطوة التجار الكبار

داخل السوق، يوضح أدهم الشخريت، صاحب سوبر ماركت، أن الأسعار تتحكم بها قلة من كبار التجار. يقول: "هناك ثلاثة تجار معروفون في القطاع بعلاقتهم بالجيش الإسرائيلي. التنسيق لإدخال السلع يجري عبرهم مقابل مبالغ ضخمة، وأحيانًا تصل تكلفة تأمين شحنة واحدة إلى أكثر من مليون شيقل".

ويتابع: "هذا العبء يُلقى في النهاية على المواطن. وحتى لو دخلت البضائع بكثافة، فإن التجار يسعون لتعويض تكلفة التنسيق والتأمين، ما يجعل الأسعار مرتفعة دومًا".

ويضيف أن أقصى ما يدخل القطاع يوميًا لا يتجاوز 150 شاحنة، بينما يحتاج القطاع إلى ضعفي هذا العدد ليشعر المواطن بتحسن ملموس في الأسعار والوفرة.

المجاعة لم تنتهِ بعد

من جانبه، يؤكد الخبير الاقتصادي محمد المصري أن "المجاعة لم تنتهِ بعد"، مشددًا على أن ما يُسمح بإدخاله إلى غزة هو السلع التجارية، في حين يُمنع إدخال المساعدات الإنسانية بشكل واسع.

يقول المصري: "السوق في حالة عطش مستمر، يغرق أحيانًا بسلعة أو سلعتين ثم تختفي وتعود أخرى مكانها. هذا النمط من التحكم يبقي الأسعار مرتفعة ويكرس حالة الاحتكار". ويضيف: "طالما ظل الاحتلال يسمح بعدد محدود من التجار بالتنسيق، فسيبقى السوق رهينة لقلة تتحكم به كيفما تشاء".

وفرة خادعة وجوع مستمر

وراء صور الأسواق المزدحمة بالبضائع في غزة، تختبئ معاناة لا تُرى: أمهات عاجزات عن تلبية أبسط رغبات أطفالهن، موظفون بلا رواتب يطاردون رغيف الخبز في “مصائد الموت”، وأسواق خاضعة لسطوة تجار كبار ينسقون تحت عين الاحتلال.

الوفرة التي التقطتها عدسات الكاميرات لم تترجم إلى أمن غذائي، بل تحولت إلى مشهد خادع يخفي واقعًا أشد قسوة، حيث يبقى الطعام رفاهية نادرة، ويظل الجوع حاضرًا في تفاصيل الحياة اليومية لأكثر من مليوني إنسان محاصر.