يخوض شبانٌ في قطاع غزة رحلة موتٍ مركبة، في محاولةٍ لتأمين وصول المساعدات الغذائية والدوائية إلى مخازن المساعدات ومقرات المؤسسات الدولية، يواجهون خلالها القصف المباشر ونيران القناصة الإسرائيليين من جهة، وهجمات العصابات المسلحة وقطاع الطرق من جهةٍ ثانية.
ضباط المخابرات الإسرائيليين يلجأون أحيانًا إلى الترهيب المباشر عبر الاتصال بعناصر فرق التأمين وتحذيرهم من أن مرافقة القوافل "نشاطٌ إرهابي"
وشهد شمال ووسط قطاع غزة خلال الصيف الحالي مجازر استهدفت فرق تأمين المساعدات الإنسانية، مما أسفر عن استشهاد المئات منهم ومن منتظري المساعدات. ففي 28 تموز/ يوليو استهدفت قوات الاحتلال عناصر تأمين المساعدات في منطقة السودانية شمال غرب غزة، مما أدى إلى استشهاد 10 من العناصر وإصابة 30 آخرين بجروح متفاوتة، بينهم حالات حرجة.
وفي 31 تموز/ يوليو، ارتكب الاحتلال مجزرةً أخرى في نفس المنطقة، استشهد على إثرها 51 شخصًا وأصيب 648 آخرون أثناء توجههم للحصول على مساعدات غذائية وصلت عبر شاحنات من منطقة "زيكيم". وفي 20 آب/ أغسطس، استشهد 12 فلسطينيًا إثر قصف الجيش الإسرائيلي لفرق تأمين شاحنات التجار في محور "زيكيم".
وتأتي هذه المجازر في وقتٍ يعاني فيه قطاع غزة من أزمة إنسانية غير مسبوقة، مع انتشار المجاعة التي أدت حتى الآن إلى 135 حالة وفاة بشكلٍ مباشر، من بينهم 28 طفلًا وفق أحدث إحصائية لوزارة الصحة، يوم الجمعة 12 أيلول/ سبتمبر. هذا عدا 2479 شهيدًا من المجوَّعين أثناء انتظارهم المساعدات، بينما يسمح جيش الاحتلال لعصابات السرقة بتنفيذ الهجمات على قوافل المساعدات والاستيلاء عليها، في هجمات حدث بعضها على بعد أمتار من آلياته.
شهادات عناصر التأمين
يقول زيد أبو نهار، أحد عناصر فرق تأمين المساعدات في دير البلح، إن رحلتهم لتأمين قوافل الإغاثة أقرب إلى رحلة الذهاب بلا عودة، وهم يستعدون لها وكأنهم يودّعون حياتهم، إذ يسيرون وسط طرقٍ محفوفة بالموت، ويعودون مثقلين بتجارب مروعة بعد مواجهة أخطار هائلة على الطريق.
ويضيف أبو نهار لـ"الترا فلسطين" أنهم يواصلون هذه المهمة بدافع إنساني وأملٍ في إنقاذ أبناء شعبهم من شبح المجاعة، "فالمخاطرة بحياتنا أقل ضررًا من ترك أطفال ومرضى غزة بلا غذاء أو دواء" وفق قوله.
وأكد أبو نهار أن جيش الاحتلال يستهدفهم بالطائرات المسيّرة والمدافع والقناصة والدبابات، أثناء مرافقة القوافل وحراسة الشاحنات، أو حتى عند التجمع في نقاط التنسيق، بما يشمل منازلهم أيضًا.
وأوضح أن ضباط المخابرات الإسرائيليين يلجأون أحيانًا إلى الترهيب المباشر عبر الاتصال بعناصر فرق التأمين وتحذيرهم من أن مرافقة القوافل "نشاطٌ إرهابي"، مؤكدًا أن هذه المحاولات لم تثنهم عن حماية المساعدات وإيصالها للمدنيين رغم كل المخاطر.
وأضاف أن الدافع الأكبر للمخاطرة بحياتهم هو حجم الكارثة الإنسانية في غزة، "فالمجاعة وصلت إلى كل بيت، وبات مئات الآلاف لا يجدون حتى كسرة خبزٍ لأطفالهم، وتخطت حدود الجوع إلى تسجيل مئات الوفيات، بينهم أطفال ونساء، ما يجعل مهمة تأمين المساعدات واجبًا لا يمكن التخلي عنه" كما يقول.
وأشار أبو نهار إلى أن المناطق الأكثر خطورة مثل "كوسوفيم" تشهد استهدافًا دائمًا أثناء انتظار اقتراب الشاحنات، رغم عدم دخولهم المنطقة العازلة، مبينًا أنهم "بدأوا باتخاذ إجراءات احترازية، مثل عدم التجمع في نقاط ثابتة لتفادي أن يصبحوا أهدافًا سهلة، مع ضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها، معتمدين على تعاون السكان".
قطاع طرق برعاية الاحتلال
وتشكل العصابات المسلحة المتعاونة مع الاحتلال خطرًا آخر على عناصر تأمين المساعدات، فهي تعمل على عرقلة مرور الشاحنات وسرقتها واستهداف العناصر أثناء ذلك.
ويقول إبراهيم سليم، أحد عناصر فرق تأمين المساعدات، إن هناك تنسيقًا مباشرًا بين العصابات الإجرامية وقوات الاحتلال، إذ تشكل العصابات مزيجًا من العملاء واللصوص لتحقيق هدف مزدوج: إشاعة المجاعة، وتحقيق أرباح من بيع المساعدات بأسعار مرتفعة لا يستطيع معظم الغزيين شراؤها.
وأوضح سليم لـ"الترا فلسطين" أن المركبات التي يستخدمونها لمرافقة الشاحنات تتعرض للاستهداف المباشر، بينما مركبات العصابات تبقى محمية، فتستغل الفوضى للسيطرة على الشاحنات غالبًا في المناطق الشرقية من دير البلح أو خان يونس.
وتحدث سليم عن اشتباكات مسلحة وقعت مع أفراد العصابات، ما أدى إلى استشهاد عدد من عناصر التأمين، إضافة إلى المدنيين والنازحين الذين يأتون للحصول على الطحين والمساعدات، وحتى سائقي الشاحنات الذين يرفضون التوقف أو تسليم المساعدات.
وبيّن سليم أن العصابات تقطع الطرق على الشاحنات بعدة طرق، مثل وضع الحجارة والحواجز، وإطلاق النار على العجلات والمحركات والبطاريات للشاحنات، إضافةً إلى رش الطلاء والرمال على الزجاج الأمامي لإعاقة الرؤية أمام السائق، ما يجعل السائق أمام خيارين: التوقف وتسليم الشاحنة، أو الاستمرار في القيادة مع خطر دهس المتواجدين في المكان، وقد تسببت هذه الأساليب في العديد من الحوادث المميتة.
هجمات قطاع الطرق تضع السائق أمام خيارين: التوقف وتسليم الشاحنة، أو الاستمرار في القيادة مع خطر دهس المتواجدين في المكان
ويضيف أنه بينما تهاجم العصابات الإجرامية برعاية الاحتلال معظم شاحنات المساعدات، يُسمح من جانبٍ آخر لبعض البضائع بالوصول للتجار بأسعار مرتفعة لا يستطيع غالبية الناس شراءها، ما يمنح الاحتلال مظهرًا بأنه يسمح بدخول المساعدات، بينما الواقع على الأرض أنه ينفذ تجويعًا ممنهجًا بحق أكثر من مليوني إنسان.
التجويع بنهب المساعدات
ودعا مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية جيش الاحتلال إلى وقف هجماته على الفلسطينيين العاملين في تأمين قوافل المساعدات، مؤكدًا أن هذه الهجمات ساهمت في تفشي المجاعة بين المدنيين.
وسجل المكتب الأممي 11 هجومًا أثناء تأمين المساعدات في شمال ووسط غزة خلال شهر آب/ أغسطس، مبينًا أنها أسفرت عن استشهاد العشرات، معظمهم من عناصر التأمين، إلى جانب إصابات أخرى بين طالبي المساعدات.
وأكد أن هذه الهجمات تشكل نمطًا متكررًا لاستهداف المدنيين الذين يساهمون في تأمين الضروريات الحياتية، مضيفًا أن استهداف أفراد الشرطة المدنية والأمن أدى إلى انهيار النظام العام وتعميق حالة الفوضى وزيادة المجاعة.
وشدد على أن "إسرائيل" ملزمة بموجب القانون الدولي الإنساني بضمان سلامة السكان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن استهداف عناصر التأمين يُعد انتهاكًا مباشرًا لهذه المسؤولية.