بيسان

الصحفي محمد قريقع.. وثّق إبادة غزة حتى التغطية الأخيرة

المصدر تقارير
الصحفي محمد قريقع.. وثّق إبادة غزة حتى التغطية الأخيرة
أميرة نصَّار

أميرة نصَّار

صحافيّة وكاتبة من غزَّة

عند الساعة الرابعة عصرًا طبع الصحفي محمد قريقع قبلاته على جبين أطفاله الثلاثة زين وزينة وسند، وألقى عليهم التحية، فيما انعكست ابتسامتهم على عينيه الخضراوين اللامعتين، لتشحذها لمواصلة عمله، حين همّ بالخروج الأخير من بيته إلى دوامه المسائي، لتغطية حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، فيما بقيت زوجته هالة تراقب عقارب الساعة إلى حين عودته عند الساعة الحادية عشرة والنصف ليلًا.

"على ما يبدو أنها ليلة صعبة وعصيبة على الفلسطينيين، على الأقل في غزة، بينما في المناطق الأخرى دوي انفجارات متماثلة تستهدف منازل وخيام النازحين، والمشهد في أسوأ مراحله حتى اللحظة"، هذه المراسلة الأخيرة نقلها قريقع مرتديًا سترته وخوذته الصحفيتين على الهواء مباشرة، قبل استشهاده بعدة دقائق برفقة زملائه الأربعة أنس الشريف، وإبراهيم ظاهر، ومؤمن عليوة، ومحمد نوفل عبر مسيّرة إسرائيلية استهدفت خيمة الصحفيين.

رغم انشغال الصحفي محمد قريقع بالتغطية الصحفية والميدانية لحرب الإبادة الإسرائيلية، أصر على إكمال دراسته والتحق ببرنامج الماجستير في الصحافة بالجامعة الإسلامية، وسط القصف والدمار

تجلس هالة قريقع، زوجةُ محمد، بجسدها المنهك وعينين متورمتين من البكاء. تخرج الكلمات بثقلٍ وببطءٍ من فمها الذي افتتح أولى جراحه، قائلة: "في ليلة الأحد 10 آب/أغسطس من العام الجاري، اشتدت الضربات والاستهدافات الإسرائيلية من كل حدب وصوب. شعرت بالقلق على زوجي وكنت أكتم صوتي الداخلي، فيما تناولت أناملي الهاتف وبدأت الاتصال به لكن لم أتلقَ أي رد!"، تصمت هالة لبرهة من الزمن ثم تتابع: "شعرت بالخوف والقلق ثم حاولت الاتصال بزملائه، لكن أحدًا لم يجب. توجهتُ إلى مستشفى الشفاء الطبيّ فصُعقت باستشهاد رفيق دربي في خيمة الصحفيين".

تحتضن هالة صغيرها سند وتمسح دمعتها: "يعجز الكلام عن التعبير عن محمد — الإنسان والزوج المتعاون والهادئ والحنون جدًا على أطفاله، المحب للجميع والإنساني لأبعد الحدود، لا يتردد في معاونة ومساندة الآخرين حتى على حساب راحته؛ المراسل الصحفي الذي وثق ونقل جرائم الاحتلال الإسرائيلي للعالم أجمع".

ولد قريقع قبل ثلاثة وثلاثين عامًا في حيّ الشجاعية بمدينة غزّة. منذ نعومة أظافره فقد والده وهو في السادسة من عمره، وعاش وحيدًا دون أشقاء أو شقيقات برفقة والدته التي بذلت ما في وسعها لأجل راحته وسعادته حتى قبل استشهادها.

تتابع هالة لـ"الترا فلسطين": "كان محبًا وبارًّا بوالدته التي أفنت عمرها وحياتها في تربيته وتعليمه. وأثناء حرب الإبادة على قطاع غزة بقي برفقتها في شمال القطاع، ولم ينزح معنا نحو الجنوب من أجل الاستمرار في التغطية الميدانية لحرب الإبادة ولإبعادنا عن الخطر قدر الإمكان".

في 19 آذار/مارس 2024 استشهدت والدته نعمة قريقع بعدما أعدمها جنود الاحتلال الإسرائيلي بدمٍ باردٍ أثناء اجتياح مجمع الشفاء الطبيّ. بكى محمد حين شاهد جثمان والدته وعرفها من ثيابها وملابسها، وتقول زوجته: "تأثر بفراقها، بقي دائمًا يخرج الصدقات عن روحها — رحمها الله — ويتمنى أن يجتمع ويلتحق بها ويستذكر صفاتها وحياتها على لسانه".

درس قريقع الصحافة والإعلام في الجامعة الإسلامية بغزّة، وعمل في وسائل إعلام محلية عدّة، منها فضائية الأقصى وإذاعة الرأي، وانضم إلى قناة الجزيرة في آب/أغسطس 2024 أثناء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة.

محمد قريقع

تحدّثت هالة والدمع متحجّر في مقلتيها: "كما افتقد زوجي والدته، يفتقده أطفالُه الثلاثة: زين، ابننا البكر (8 سنوات)، الذي رافقه ونال الحب والدلال منه؛ زينة (5 سنوات) ذات العيون المدللة؛ وسند (سنةٍ و11 شهرًا)، المولود في ثاني أيام الحرب، في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023".

تجلس هالة بجسدها المنهك وعينين متورمتين من البكاء وتستكمل: "بعد خمسة أيام من ولادتي، نزحت مع عائلتي نحو الجنوب. لم يعرف سند والده حتى عمر سنةٍ وثلاثة أشهر، حين عدنا إلى الشمال بعد الهدنة، في كانون الثاني/يناير 2025، لم يتقبله في البداية، وكان يؤلم محمد كثيرًا عدم معرفته به. لكنه مع الوقت بدأ بالتعرف على وجه أبيه والتعلق فيه، حتى قبل أن ينعم بدلاله انتزعه الموت ويمّته الاحتلال الإسرائيلي مرة أخرى".

رغم انشغال الصحفي قريقع بالتغطية الصحفية والميدانية لحرب الإبادة الإسرائيلية، أصر على إكمال دراسته والتحق ببرنامج الماجستير في الصحافة بالجامعة الإسلامية، وسط القصف والدمار. وتقول هالة: "دائمًا كان يختطف محمد من وقته دقائق ويهاتفنا ويطمئن علينا، وكان يحب أطفاله كثيرًا، حيث كان يلبي احتياجاتهم وأمنياتهم ويحضر لهم ما يطلبون، ويحرص على تعليمهم القرآن الكريم في صغرهم كما حفظه".

يجلس زين وزينة وسند بهدوء خلف والدتهم، وتختتم حديثها لـ"الترا فلسطين" برسالة من فقد تجرعت مرارته في عيون أطفالها: "أتمنى من العالم أن يوقف قتل الصحفيين ويلتفت إليهم وخصوصًا في قطاع غزة، وعلى العالم أن يحاسب القتلة الإسرائيليين ويوقف حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة التي قتلت أرواح أحبائنا وأرواحنا".

رحل الصحفي قريقع؛ بصوته الرخيم ولغته الفصيحة ما زالت حاضرة في ذاكرة من شاهده وسمعه ينقل صوت وصورة مدينته المُبادة إلى العالم، ولا يزال طيف ذكرياته ورائحته عالقة بين أفراد عائلته. ويردد أطفاله: "بنحبك يا بابا كثير واشتقنالك".

قتل الاحتلال الإسرائيلي 250 صحفيًا فلسطينيًا في قطاع غزّة منذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وحتى هذه اللحظة.