بيسان

من دفء البيوت إلى قسوة الخيام.. شيخوخة منفيّة في غزة

المصدر تقارير
من دفء البيوت إلى قسوة الخيام.. شيخوخة منفيّة في غزة
أنوار هنية

أنوار هنية

صحفية من غزة

لم تكن الشيخوخة يومًا مرادفًا للمنفى، بل كانت دائمًا حلمًا بالطمأنينة بعد رحلة عمر طويلة. حلمٌ ببيتٍ دافئ، وحديقة صغيرة تظلّلها شجرة زرعها الأب في شبابه، يجتمع تحتها الأبناء والأحفاد حول فنجان قهوة أو كأس شاي يتقاسَمون فيه الذكريات والحكايات.

لكن في غزة، انقلبت الشيخوخة إلى رحلة شاقة من التيه. فبدل أن تكون السنوات الأخيرة محطة راحة بعد عقود من التعب وبناء البيوت وتربية الأبناء، وجد المسنون أنفسهم مشرّدين من منازلهم، مطرودين من ذكرياتهم. نزوح متكرر، خيام هشة لا تقي برد الليل ولا حرّ النهار، ووجوه أنهكتها الخسارات: فقد الأحبّة، فقد المأوى، وحتى فقدان الإحساس بالأمان في آخر العمر.

 "رؤية كبار السن بهذا الشكل لا تمس فقط كرامتهم، بل تعكس أيضًا مدى التأثير النفسي والاجتماعي للحرب والنزوح على النسيج الأسري بأكمله، حيث تصبح الأسرة كلها أسيرة لتجربة فقدان الأمن والأمان والروتين اليومي".

وبينما كان يفترض أن ينعموا بكرامة يستحقونها بعد عمرٍ من العطاء، باتت أيامهم الأخيرة سلسلة من التهجير القسري، يراقبون خلالها خراب بيوتهم ودمار أحلامهم، ويرون أبناءهم وأحفادهم يُدفنون تحت الركام. وكأن العمر المديد في غزة يختصر كله في مشهدٍ واحد: انتظار موتٍ بطيء، من الجوع أو القصف أو الغربة القسرية.

"الترا فلسطين" يرصد أوجاع كبار السن ومشاعرهم في ظل حرب الإبادة

"لم أتخيّل أنني سأموت بعيدًا عن باب بيتي"، يتمتم الحاج أبو محمود (78 عامًا) وهو يجلس على حجر قرب خيمة مهترئة في مخيم النزوح. كان قد شيّد منزله حجراً فوق حجر بعرق السنين، ليكون مأواه الأخير، لكنه وجد نفسه في أرذل العمر مشردًا، ينتظر كسرة خبز وغطاء رقيق لا يقيه قسوة الليل.

قصة أبو محمود ليست استثناءً، بل مرآة لآلاف المسنين الغزيين الذين فقدوا مأواهم وذكرياتهم، وصاروا غرباء في أرضهم. سنوات طويلة من الكدّ والعمل والتربية لم تشفع لهم أمام نيران الحرب، ليجدوا أنفسهم اليوم في مواجهة قاسية مع العجز، والنزوح، وفقدان الأمان في آخر العمر.

أبو محمد قاعود (75 عامًا) الذي خسر بيته، يقول: "بيتي كان عمري، بنيته حجرًا فوق حجر. اليوم أجلس على حجر قرب خيمة مهترئة. لم يتبقَّ لي كرسي ولا غرفة ولا حتى باب أغلقه. أعدّ الأيام كضيف ثقيل على الحرب".

وكان لـ"الترا فلسطين" وقفة مع أبو يوسف (82 عامًا) الذي فقد أبناءه في الإبادة الجماعية قائلًا: "دفنت ثلاثة من أولادي بأيدي المرتجفة. في عمري هذا كان يجب أن أجد من يسندني، لكنني أنا الذي أحمل فواجعهم وأتوكأ على عصاي نحو مقابرهم".

وعن النزوح المتكرر تتحدث الحاجة أم سليم (72 عامًا): "نزحت عشر مرات منذ بدأت الحرب. كل مرة أترك مكاني وأنا أقول: هذه الأخيرة. لكنني أجد نفسي على الطريق ثانية. لم أعد أعرف أين بيتي، أو هل بقي له أثر".

أما أبو حسن (70 عامًا) فيصف لنا الجوع قائلًا: "لم أكن أتوقع أن أصل إلى يوم أعجز فيه عن شراء رغيف خبز. عملت عمرًا كاملًا بيدي كي لا أمدّها لأحد. واليوم، أجد نفسي أمدّها مضطرًا، لأجل أن أبقى حيًا، هدم بيتي و مصنعي و بقيت الآن مشردا في خيمة ".

ويقول أبو علي: "أنا في السادسة والستين من عمري، وأعاني منذ سنوات من ارتفاع ضغط الدم. خلال النزوح الأخير، لم أستطع العثور على دوائي المعتاد، ولم يكن هناك أي مساعدة من المؤسسات المزعومة للغوث. شعرت بالدوار المستمر، وخفقان القلب، وضيق النفس، ولم أستطع النوم من شدة القلق والخوف. كل يوم كان يمر عليّ كأنه معركة جديدة مع جسدي، ومع الخوف من أن أزداد سوءًا بلا دواء. لم يعد لدي مكان أشعر فيه بالأمان، ولا طعام صحي ولا علاج يخفف عني الألم. لقد تعلمت أن النزوح ليس فقط فقدان المأوى، بل فقدان الحياة نفسها شيئًا فشيئًا".

المسنون في غزة يعيشون نزوحًا دائمًا وكأن الزمن توقف عند لحظة فقدان الأمان. كل بيت جديد هو مجرد مأوى مؤقت، وكل شارع مألوف يحمل ذكرى خراب وفقد. يروي محمد (72 عامًا) كيف شاهد أولاده يموتون أمامه في الهجمات السابقة، وكيف أصبحت الليالي الطويلة بلا مأوى ثقيلة على جسده المنهك: "أشعر أن عمري كله ذهب مع البيوت التي انهارت"، يقول بصوت يرتجف.

أما فاطمة (68 عامًا) فتصف شعورها بالعزلة حين تضطر إلى الانتقال مرارًا، بعيدًا عن الجيران والأصدقاء الذين كانوا سندها: "حتى حديث الناس أصبح رفاهية لا نستطيع الوصول إليها".

مشاعر خفية و أوجاع غزة

خبير الصحة النفسية د.درداح الشاعر،  يقول إن "المسنين في هذه المرحلة من حياتهم هم أكثر الفئات حاجة إلى الراحة والسكينة. فهم يتطلعون إلى قضاء أواخر أيامهم في بيوتهم بين أبنائهم وأحفادهم، ينعمون بدفء العائلة وهدوء الروتين اليومي الذي اعتادوا عليه. لكن الحرب والنزوح المتكرر حرمهم من هذا، فوجدوا أنفسهم مجبرين على مواجهة فقد المأوى، وانقطاع الروابط الاجتماعية، وانعدام الأمان، وسط صعوبات جسدية ونفسية متزايدة".

و يؤكد البروفيسور الشاعر أن الواقع تحت الحرب والحصار مختلف تمامًا؛ فالكبير في السن يعاني أساسًا من ضعف الصحة العامة وبطء الحركة واعتلال الصحة النفسية متسائلًا: " هذه تحديات قائمة حتى في الظروف الطبيعية، فكيف إذا أضيف إليها النزوح المتكرر بفعل الإبادة الجماعية والعدوان المستمر؟ عندها تتضاعف معاناته وتظهر عليه أعراض الاكتئاب والخوف والقلق المزمن، وتقل فترات الشعور بالرضا والطمأنينة، ويشعر بالغربة مع كل نزوح جديد يُفرض عليه".

و يوضح د. الشاعر أن المسنون في غزة يعانون من آثار نفسية طويلة الأمد نتيجة النزوح المتكرر وفقدان المأوى، حيث يعيشون حالة مستمرة من القلق وعدم الأمان واضطرابات النوم، مع ظهور أعراض الاكتئاب وفقدان الاهتمام بالحياة اليومية. وفقدان البيت يضاعف شعورهم بالعجز ويؤثر على كرامتهم، إذ يشعرون بأنهم عبء على الآخرين، ويزداد شعورهم بالعزلة مبيناً أن انقطاع الروتين اليومي يؤدي إلى الارتباك والخمول وتدهور الصحة الجسدية نتيجة قلة الحركة والتغذية غير المنتظمة. إضافة إلى ذلك، يترك فقدان الأقارب والأهل أثرًا نفسيًا عميقًا، بما في ذلك شعور بالذنب survivor guilt، ما يزيد من تعرضهم للاكتئاب.

وأضاف بروفيسور  الشاعر: "كثير من كبار السن في غزة يعانون من أمراض مزمنة كالسكري والضغط وأمراض القلب والمفاصل، وهي أمراض تتطلب رعاية صحية منتظمة ونوعية غذائية خاصة. لكن في ظل سياسة التجويع وإغلاق المعابر وانهيار النظام الصحي، بات توفير الغذاء الصحي أو الأدوية الأساسية ترفًا بعيد المنال. حتى الأدوية البسيطة كالمسكنات، إلى جانب أدوية الضغط والسكري، أصبحت نادرة الوجود، ما يزيد من خطورة أوضاعهم الصحية ويجعل حياتهم مهددة على نحو يومي".

و يستدرك بروفيسور الشاعر :"المسنون في غزة لم يحصدوا في أواخر حياتهم ثمرة تعبهم وجهدهم. فبدلًا من أن يعيشوا سنواتهم الأخيرة في دفء منازلهم التي بنوها بعرق جبينهم، محاطين بأبنائهم وأحفادهم، وجدوا أنفسهم يواجهون التهجير والتجويع وانعدام الأمان".

و بينما كان المسنون فيما مضى يجتمعون مع أقرانهم وأبناء عمومتهم ليتبادلوا الذكريات والمشاعر وأمنيات آخر العمر، باعد النزوح  بينهم وقطع روابطهم الاجتماعية، حتى مع أسرهم الممتدة. ومع فقدانهم للروتين المعتاد الذي يمنحهم الشعور بالاستقرار والطمأنينة، تتضاعف معاناتهم، فيزداد خوفهم وقلقهم، ويغدو الإحساس بأن المجتمع من حولهم قاسٍ وظالمًا أكثر حضورًا في حياتهم اليومية.

وبيّن بروفيسور الشاعر أن هذه المعاناة لا تقتصر على الآخرين، بل يعيشها هو شخصيًا قائلًا: "أنا في الثانية والسبعين من عمري، وخلال النزوح عانيت بشدة من غياب الدواء، فلم أجد علاج السكري ولا الضغط، وظللت أواجه مضاعفات هذه الأمراض بلا أي مساعدة، و المؤسسات التي يفترض أنها إنسانية لم تقدّم شيئًا فعليًا؛ اكتفوا بتسجيل أسمائنا وأخذ أرقام هوياتنا دون أي خدمات ملموسة. وحتى الأسرة، التي قد يرغب أبناؤها في مساعدة المسن، فهي عاجزة في ظل شح الموارد ونقص الإمكانيات. النتيجة أن كبار السن في غزة يواجهون واقعًا قاسيًا يحاصرهم من كل جانب، فيشعرون وكأنهم يُتركون ليموتوا موتًا بطيئًا وصامتًا".

واختتم د. الشاعر حديثه قائلًا: "إن ترك كبار السن في هذه الظروف المأساوية هو انتهاك صارخ لإنسانيتهم وحقوقهم الأساسية. فمن حقهم أن يعيشوا أواخر حياتهم بكرامة وأمان، لا أن يُتركوا فريسة للجوع والمرض والعزلة حتى آخر لحظة".

الكرامة والوجود: رسائل يحتاجها المسنون

تقول أ. عطاء عطا الله، الخبيرة الاجتماعية: "في قلب تجربة النزوح، لا يعاني كبار السن وحدهم، بل تمتد المعاناة إلى الأبناء والأحفاد الذين يشاهدون أحبتهم يتحولون أمام أعينهم. كيف يكون شعور الطفل أو الشاب حين يرى جدّه، الذي كان دائمًا سندًا ومرشدًا للعائلة، يتحول إلى 'نازح ضعيف'، عاجز عن الحركة أو مواجهة المرض، مفتقدًا للأمان الذي كان يوفره للجميع؟"

وتتابع أ. عطا الله: "تتغير أدوار العائلة تدريجيًا؛ فيصبح الأبناء هم المسؤولون عن رعاية الجد الذي كان يعتني بهم، ويعيش الجميع صدمة فقدان الروتين اليومي والاستقرار النفسي. ويشعر الأحفاد بالضياع أمام هشاشة كبار السن، ما يزيد شعورهم بالعجز والقلق، ويترك أثرًا طويل المدى على الصلات العائلية والمجتمعية".

وتؤكد أ. عطا الله أن رؤية كبار السن بهذا الشكل لا تمس فقط كرامتهم، بل تعكس أيضًا مدى التأثير النفسي والاجتماعي للحرب والنزوح على النسيج الأسري بأكمله، حيث تصبح الأسرة كلها أسيرة لتجربة فقدان الأمن والأمان والروتين اليومي.

وتركز أ. عطا الله على احتياج كبار السن إلى سماع رسائل تعيد إليهم شعور الكرامة والقيمة في حياتهم، بحيث يعرفوا أن وجودهم لا يزال مهمًا، وأن خبراتهم وحكمتهم ما زالت تُثري العائلة والمجتمع، وأن ما قدموه طوال حياتهم من عطاء لا يضيع. وتشير إلى ضرورة أن يشعر الكبار أن كرامتهم محفوظة، وأنهم ليسوا عبئًا على أحد، وأن هناك من يسمعهم ويهتم بهم، حتى في أصعب اللحظات. كما تؤكد أن المسنين ليسوا وحدهم، وأن أصواتهم وآلامهم مسموعة، وأن الأمل ما زال قائمًا رغم النزوح وفقدان الأمن والمأوى. هذه الرسائل تمنحهم شعورًا بالانتماء والدعم، وتؤكد لهم أن حياتهم ما زالت ذات قيمة، وأن وجودهم يهمّ الجميع.

وتختم أ. عطا الله بالقول إن تقديم بيئة آمنة ومستقرة، ودعم اجتماعي من العائلة والمجتمع، مع إشراك المسنين في أنشطة بسيطة، يساعد على تخفيف التوتر وتعزيز الصحة النفسية. وتشدّد على أهمية الأنشطة الاجتماعية والترفيهية، حتى لو كانت بسيطة، لما لها من دور في تقليل الشعور بالوحدة ومنح المسنين شعورًا بالإنجاز والمشاركة.