بيسان

ظروف نزوح مستحيلة: الآلاف يعيدون خطواتهم نحو مدينة غزة

المصدر تقارير
ظروف نزوح مستحيلة: الآلاف يعيدون خطواتهم نحو مدينة غزة
محمد النعامي

محمد النعامي

محمد النعامي، صحفي من غزة

مثقلين بالخوف وشيء من الأمتعة الثقيلة والخيام الممزقة، وعلى وقع أصوات الانفجارات المستمرة والدخان المتصاعد من الأحياء المدمرة، بدأت أعداد من النازحين رحلة نزوح جديدة من مدينة غزة تجاه جنوب القطاع، في محاولة لحماية أبنائهم من وابل القصف، فيما يراه بعضهم فرارًا من موت في الشمال لآخر في الجنوب. وخلال الأسابيع الأخيرة، اتبع الاحتلال أساليب دموية لإجبار السكان على النزوح نحو جنوب قطاع غزة.

 العديد من العائلات التي نزحت إلى الجنوب اضطرت أيضًا للعودة، بسبب الاكتظاظ غير المسبوق للمخيمات والأراضي.

التهجير بالمجازر

بشكل مستمر، يوجّه الاحتلال روبوتات متفجرة، وهي عبارة عن آليات محملة بالمتفجرات من مادة TNT، لتنفجر في قلب الأحياء المأهولة، مسببة مجازر بشعة ودمارًا هائلًا للمنازل. كما يلجأ الاحتلال إلى إلقاء البراميل المتفجرة بواسطة الطائرات المسيرة، وإطلاق الرصاص بشكل مركز على المنازل، إضافة إلى القنابل الحارقة التي تستهدف الخيام المأهولة، خصوصًا في مناطق الشيخ رضوان، جباليا النزلة، الصفطاوي، والأحياء الشرقية وحي التفاح والزيتون والصبرة.

تهدف هذه الإجراءات الوحشية إلى تفريغ مدينة غزة وتهجير سكانها، سواء جنوبًا أو غرب المدينة، تمهيدًا لإخلائهم قسريًا نحو الجنوب في مرحلة ثانية من القصف وأوامر الإخلاء، وسط ظروف مأساوية ومعاناة إنسانية لا مثيل لها.

ووسط القصف الإسرائيلي المستمر والزحف بالروبوتات المتفجرة، رصد "الترا فلسطين" حركة النازحين ووصولهم إلى غرب مخيم النصيرات، قرب تبة لنويري وغرب قرية الزوايدة، نحو مناطق الوسط والجنوب في قطاع غزة.

يشير شهود عيان، تحدثوا لـ "الترا فلسطين"، إلى أن القصف طال مساحات واسعة داخل مدينة غزة، وامتد تدريجيًا من الشرق والشمال، مع توسع يومي في نطاق التهديد. ومع ذلك، لم يصدر جيش الاحتلال أيّ أمر شامل لإخلاء المدينة، دافعًا الغزيين للنزوح تحت القصف وبالدماء.

وقطعت مجموعة كبيرة من النازحين مسافات طويلة سيرًا على الأقدام، بسبب عدم امتلاكهم المال الكافي لنقل أمتعتهم، حملوا معهم فقط بعض الأمتعة الخفيفة، بينما وصل قسم كبير منهم إلى جنوب القطاع دون خيام، بعد أن طال القصف مناطقهم.

تعرّضت بعض العائلات للحصار في منازلها ومناطقها لأيام، قبل أن يتمكنوا من الفرار نحو الجنوب وسط كثافة القصف وتصاعد المجازر. ومع وصولهم، وجدوا أوضاعًا مأساوية، حيث إن العديد من النازحين اضطروا لافتراش الأرض وسط الطرقات أو قرب المستشفيات الميدانية، بينما لم يجدوا أي مكان شاغر لوضع الخيام، في حين أن قسمًا آخر لم يكن يمتلك خيامًا أصلًا.

الصدمة التي واجهوها دفعت بالكثيرين إلى العودة إلى مناطق نزوحهم السابقة غرب مدينة غزة، ما أدى إلى موجة نزوح عكسية، بالإضافة إلى أن القصف المكثف يطال جنوب القطاع كما شماله بالوتيرة ذاتها.

وارتكبت قوات الاحتلال مجازر بحق عائلات نزحت حديثًا، حيث استهدفت خيمة لعائلة الداية في منطقة السوارحة غرب النصيرات في اليوم نفسه الذي نزحت فيه، وخيمة لعائلة الخطيب غرب النصيرات كذلك، لم يمضِ على وصولها لوسط القطاع سوى نصف ساعة، إلى جانب العديد من المجازر الأخرى، رغم زعم الاحتلال أن هذه المناطق آمنة وفي وقت يدّعي فيه أنه يطبق هدنًا إنسانية.

رحلة النزوح

بالنسبة للعائلات التي نزحت، فإن الرحيل لم يكن خيارًا، بل فرضته رصاصات الاحتلال وروبوتاته المتفجرة التي أُرسلت لتفجير المنازل فوق رؤوس ساكنيها.

إحدى العائلات التي نزحت للجنوب كانت عائلة السيدة علا حمدان، المكونة من 7 أفراد، والتي كانت مقيمة في منزلها في منطقة أبو إسكندر في مدينة غزة، قبل أن يبدأ القصف المكثف.

تقول علا، في حديث لـ "الترا فلسطين"، إن النزوح إلى جنوب القطاع كان أشبه بالمستحيل، فقد تكلفوا ما يقارب 2800 شيكل لنقل أمتعتهم، بينما كانت الأسعار حولهم تتصاعد بلا رحمة. وعند وصولهم إلى منطقة مواصي القرارة جنوب القطاع، لم يجدوا مكانًا لوضع خيمة، فالمخيمات كانت مكتظة بالأهالي النازحين.

ولم يكن أمامهم سوى التوغل أكثر داخل المواصي جنوبًا، متنقلين من منطقة إلى أخرى، ثم غادروها تجاه وسط القطاع حيث وصلوا إلى شرق مدينة دير البلح، المنطقة التي وصفتها علا بأنها "خطيرة ومليئة بالرهبة".

هناك قضت العائلة ليلة واحدة فقط، لكنها كانت كافية لتترك أثرًا عميقًا في عائلتها؛ أصوات الرصاص والانفجارات كانت تحيط بخيمتهم، وأحيانًا يشعرون وكأن الموت يقترب معهم مع كل انفجار.

تروي السيدة علا حمدان تفاصيل الليلة العصيبة التي قضتها مع عائلتها في شرق دير البلح: "بعد ثلاث ساعات من نصب الخيمة وإعداد التجهيزات للاستقرار في ذلك المكان، كانت أصوات إطلاق النار تقترب شيئًا فشيئًا، ومع حلول منتصف الليل، تصاعدت كثافة القصف المدفعي قرب المنطقة، حتى إن إحدى الرصاصات اخترقت برميل المياه الخاص بالعائلة، ما أثار ذعرهم الشديد".

ومع اقتراب الرصاص وسماع صوت الآليات العسكرية، لم يكن أمامهم سوى الفرار دون أخذ الخيمة أو أغراضهم، هربوا لمسافة تقارب كيلومترًا ونصف إلى كيلومترين وصولًا إلى شارع صلاح الدين، حيث لم يجدوا أي مأوى للنوم، وبقوا مستيقظين حتى شروق الشمس.

في صباح اليوم التالي، خرج أولاد السيدة علا لإحضار الخيمة وبعض أمتعتهم من المكان الذي اضطروا للهرب منه، استعدادًا لنقلهم إلى شمال القطاع، بعد أن أدركت العائلة أنه لا مكان آمن للنزوح في جنوب القطاع.

وتشير إلى أن العديد من العائلات الأخرى التي نزحت إلى الجنوب اضطرت أيضًا للعودة، بسبب الاكتظاظ غير المسبوق للمخيمات والأراضي. الكثير من الأراضي التي كانت فارغة في شرق القطاع في بداية الحرب لم تعد كذلك؛ بعضها تحول إلى أراضٍ زراعية، وبعضها الآخر توسعت فيه خيام جديدة.

أما محمد عليوة، فقال في حديث لـ"الترا فلسطين"، إن معظم العائلات في الشمال لن تتمكن من النزوح للجنوب حتى لو رغبت في ذلك، حيث إن تكلفة التنقل مرتفعة للغاية، والفقر والبطالة وارتفاع الأسعار الفاحش يجعل هذه الرحلة شبه مستحيلة بالنسبة للغالبية العظمى من السكان.

حاول محمد البحث عن مأوى آمن لعائلته في الجنوب، لكنه صُدم بالواقع المرير الذي وجده؛ فالمخيمات مكتظة وتفتقر إلى أبسط التجهيزات؛ لا صرف صحي ولا مياه كافية للاستخدام اليومي. وأضاف أن المناطق الوحيدة المتاحة تقع بالقرب من مواقع الاحتلال، وهي مناطق خطيرة للغاية.

تجوّل محمد في منطقة المواصي بمدينة خانيونس وفي المخيمات الوسطى، لكنه لم يجد أي مكان آمن للنزوح، ما جعله يقرر عدم المخاطرة بعائلته.

المأساة لا تتوقف عند ذلك، فاستغلال بعض الأشخاص للنازحين يضيف عبئًا آخر على الأهالي، حيث كشف محمد أن بعض الأراضي في الجنوب تُؤجر بمبالغ مرتفعة جدًا، يصل سعر المتر فيها بين 10 و15 شيكل، ما يجعل عائلة تستأجر 100 متر مضطرة لدفع 1000 إلى 1500 شيكل شهريًا نقدًا، وهو مبلغ باهظ لا تستطيع تحمله في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.

وأضاف عليوة: "الأمان الذي يدّعيه الاحتلال مجرد وهم؛ فكل ليلة تتعرض الخيام في منطقة المواصي للقصف، ويُستشهد من بداخلها ومن حولها، إذ تبدو الخيام متلاصقة، والقماش الرقيق لا يحمي من الشظايا، والطائرات تقصف كل المناطق بصواريخ قوية، خصوصًا خلال الليل".

رغم كل ذلك، يؤكد محمد أن سكان غزة مصرّون على الصمود، وهناك إجماع داخلي على البقاء في المدينة، فلا أحد يريد المغادرة. وأوضح أن أكثر ما يردع النازحين هو تجربتهم المريرة خلال العام الأول من الحرب، حين اضطروا للنزوح نحو الجنوب وواجهوا حياة التشرد والبعد عن منازلهم وأهلهم.

كارثة طبية منتظرة

بدأت موجات النزوح في وقت يمر فيه قطاع غزة بذروة الأزمة الصحية والطبية، مع نقص حادّ في المستلزمات الطبية والأدوية. وأعلنت وزارة الصحة عن تفشي أمراض وفيروسات مجهولة المصدر والطبيعة، لا تتمكن الطواقم الطبية من علاجها، ما يزيد الضغط على المنظومة الصحية المثقلة أصلًا بالتعامل مع آثار القصف الإسرائيلي المستمر.

وقد تركّز القصف بشكل أكبر على مناطق النزوح التي يدّعي الاحتلال أنها "آمنة"؛ ما أثار مخاوف كبيرة بشأن قدرة النظام الصحي على استيعاب أعداد إضافية من النازحين، التي يُتوقع أن تتوافد على شكل مئات الآلاف حال إصدار الاحتلال أوامر إخلاء تشمل كافة مناطق مدينة غزة، وبالأخص غربها.

وتشير التحذيرات الطبية إلى أن هذه الموجة قد تؤدي إلى كارثة طبية حقيقية، تضاف لسلسلة الكوارث التي ضربت القطاع الصحي في غزة منذ بداية الحرب.

بدوره، يؤكد الطبيب علي منصور أن مستشفيات جنوب قطاع غزة غير مؤهلة على الإطلاق لتقديم الخدمات الطبية للمتواجدين هناك، سواء كانوا سكان المناطق الوسطى أو مدينة خانيونس أو النازحين من رفح.

ويتساءل، في حديث لـ"الترا فلسطين": "كيف يمكن لهذه المستشفيات أن تستوعب أكثر من مليون نازح إضافي، خصوصًا أن مستشفى الأقصى يعاني من قصور كبير في عمله، والعديد من المعدات الطبية والعلاجات غير متوفرة، بينما دُمرت مستشفى ناصر أقسام كبيرة منه نتيجة القصف المتكرر من الاحتلال؟".

ويشير الطبيب إلى أن الدعاية التي يصورها الاحتلال حول تشغيل المستشفى الأوروبي مجرّد وهم؛ إذ يحتاج المستشفى إلى تأهيل كامل وإدخال معدات ومواد وأجهزة طبية على أعلى المستويات، ليتمكن من العمل بشكل فعلي.

ويضيف أن الاحتلال لا يلتزم بذلك، بل سوف يقتصر تشغيل المستشفى على شكل رمزي فقط، دون تقديم الرعاية الطبية المعتادة والضرورية للمرضى والنازحين، ما يجعل الوضع الصحي في الجنوب كارثيًا ويزيد من معاناة السكان بشكل كبير.

كما يوضح الطبيب أن قطاع غزة يشهد موجة كبيرة من الأمراض، إلى جانب الإصابات اليومية الناتجة عن قصف الاحتلال وحالات الضحايا في مراكز المساعدات التي تتحول أحيانًا إلى مصائد موت.

ويؤكد أن انتشار الأمراض والفيروسات يتفاقم، بعضها معروف وبعضها غير معروف، في ظل التلوث والاكتظاظ الهائل داخل الخيام، ما يشكل بيئة خصبة لتفشي الأمراض وتطورها بسرعة.

ويتابع د. منصور: "إن الوضع الصحي سيزداد سوءًا بشكل كارثي إذا نفذ الاحتلال تهديداته بتهجير كامل لسكان مدينة غزة، وما قد يتبعه من تدمير ما تبقى من المستشفيات والمراكز الطبية، ما سيضاعف المعاناة الإنسانية والصحية للسكان بشكل غير مسبوق".