آلاف النازحين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها يفترشون الأرض، بعد أن حوّل القصف الإسرائيلي على برجي مشتهى والخيام المحيطة إلى ركام. وبحسب التقارير الإسرائيلية، فإن قصف الأبراج في مدينة غزة، كان ضمن بداية عملية احتلال المدينة، إذ تدمر الأبراج تحت ذريعة وجود كاميرات مراقبة وإمكانية تنفيذ عمليات قنص وإطلاق صواريخ. لكن وفق "يديعوت أحرونوت"، فإن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، تعتبر قصف الأبراج، في النهار وبالصواريخ من الجو، يأتي تحت السعي الإسرائيلي لدفع أهالي مدينة غزة للنزوح جنوبًا.
وكانت الليلة الماضية قاسية على آلاف النازحين الذين كانوا مقيمين في برج مشتهى وحوله، ولم يبقَ لهم سوى الطرقات المظلمة ملجًأ، ليجدوا أنفسهم بلا مأوى وبلا أمتعة، ينتظرون المصير المجهول على وقع الخوف من استهدافات ومجازر حديدة.
يسعى الاحتلال عبر تدمير أبراج مدينة غزة في ساعات النهار إلى دفع أهالي المدينة للنزوح جنوبًا
أما برج السوسي الذي كان يعج بالنازحين الباحثين عن مأوى آمن فقد تحوّل إلى كتلة من الركام بعد دقائق من إنذاره، لتتجدد مأساة مئات العائلات في رحلة نزوح قسرية لا تعرف لها نهاية.
زار "الترا فلسطين" موقع الاستهداف في برج مشتهى، ووثّق حجم المأساة الإنسانية التي خلّفها القصف. فالمكان لم يعد سوى ساحة واسعة من الركام والدمار الشامل، بعدما فجّر الاحتلال المبنى بأطنان من المتفجرات، ما حوّل المنطقة بأكملها إلى أنقاض.
وتحت هذا الركام دُفنت آلاف الخيام التي كانت تؤوي النازحين، كما ابتلعت الحجارة أمتعتهم القليلة التي نجوا بها من موجات نزوح سابقة، ليجدوا أنفسهم من جديد بلا مأوى، وبلا ما يقيهم الشمس الحارقة، وظروف النزوح الصعبة وقسوة العراء.
◀️ توثيق يظهر اللحظات الأولى لقصف طيران الاحتلال الإسرائيلي برج مشتهى في مدينة غزة pic.twitter.com/dh3vCsFC07
— Ultra Palestine - الترا فلسطين (@palestineultra) September 5, 2025
وأفاد النازح عبد الرحمن السويرك أنه خسر خيمته وأمتعته بعد استهداف برج مشتهى، حيث كانت خيمته تقع في محيطه. وأوضح أن القصف الضخم دفع الأنقاض والحجارة إلى مسافة واسعة ودمر آلاف الخيام التي كانت تؤوي عائلات نازحة، ليجد السكان أنفسهم مرة أخرى بلا مأوى.
وأضاف في حديثه لـ"الترا فلسطين"، أنه نزح مع عائلته من شمال القطاع، من مخيم جباليا، بعد أن دمر الاحتلال منزله وكامل حيه السكني، بحثًا عن الأمان لعائلته وأطفاله فأقام خيمته غرب مدينة غزة، والتي اعتُبرت حينها "منطقة إنسانية" حسب ادعاءات جيش الاحتلال. لكن القصف لحقهم، فدُمّر البرج وخيمته بالكامل، ومعها فقد كافة أمتعته، ما خلق لهم معاناة أكبر وظروف حياة مستحيلة.
وأوضح أن هناك آلافًا من النازحين الذين طمرت خيامهم بالركام وتشردوا جراء استهداف البرج، وهم الآن بلا مأوى، بلا خيام، وبلا أمتعة، لا يملكون شيئًا سوى ما يرتدونه على أجسادهم. وأضاف أن هؤلاء الآلاف لا يملكون حتى وسيلة للاختباء من الشمس، ولا غطاء يحميهم في الليل، ولا أماكن لقضاء الحاجة، ليصبحوا بلا أي مقومات أساسية للحياة، و"ضحايا ضربة واحدة استهدفت البرج ودمرت ما تبقى من مأوى وأمل لهم".

وروى موقفًا صعبًا تعرض له قبل دقائق من استهداف البرج، حين تذكر وجود بعض المواد الغذائية والمعلبات داخل خيمته. وقرر على الفور أن يذهب لاسترجاعها بسرعة، لكن زوجته وأطفاله توسّلوا إليه وأخذوا يبكون راجين منه عدم المخاطرة. ومع ذلك، غامر عبد الرحمن حيث لم يكن يملك أي بديل آخر في ظل المجاعة المستشرية، فتوجه بسرعة لاستعادة ما أمكنه من طعام. وبالفعل عاد، وبعد لحظات فقط من عودته بدأ القصف على البرج.
واستكمل مستهجنًا: "تخيل أن حياتنا، حياة الإنسان، صارت تساوي بضع معلبات فاصوليا وفول وما تبقّى من طعام، لأجل هذه المواد فقط. بات من المعقول أن أذهب وأعرض نفسي للموت والخطر لاسترجاعها، وأنا أعلم أنه في حال لم أحضر هذه المواد الغذائية من الخيمة، سيبقى أطفالي لأيام بلا طعام".

أمّا النازح أحمد الراعي، وهو شاب فقد منزله في حي الزيتون، ولجأ مع أقربائه إلى شقة في برج السوسي، حيث كانوا يسكنون مؤقتًا بعد نزوحهم، قال إن قوات الاحتلال أصدرت إنذارًا لسكان البرج، محددة لهم خمس دقائق فقط لمغادرته، دون السماح لهم بأخذ أي من ممتلكاتهم. وانتظر النازحون في الطرقات المطلة على البرج، يراقبون ما كان على وشك أن يصبح ركامًا تحت قصف طائرات الاحتلال، وسط شعور بالصدمة والخوف مما هو قادم.
وقال في حديثه لـ"الترا فلسطين" إن القصف جرد عائلته وأقاربه، الذين كانوا نازحين عندهم، من آخر مأوى متاح لهم، ومن كل ما كانوا يمتلكونه من أمتعة وأغراض وتجهيزات، وأكد أن هذا الوضع ينطبق على أكثر من 3,000 نازح كانوا يسكنون البرج قبل استهدافه مباشرة، لتُترك تلك العائلات في الطرقات بلا مأوى.

وأوضح أحمد أن والدته المريضة لا تقوى على البقاء في العراء، تحت أشعة الشمس الحارقة وفي غبار الأنقاض المتطاير، والذي بدأ يؤثر على صحتها منذ الدقائق الأولى للنزوح، وأضاف أن الأطفال، بمن فيهم أبناؤه وأبناء عائلته، يعيشون في خوف شديد بعد القصف الضخم، وخرجوا على عجلة من أمرهم من البرج وسط أجواء من الرعب والهلع، دون أي مأوى، ليواجهوا معاناة جديدة في تشرد جديد.
وشدد على أن الجميع يعلم أن الاحتلال يسعى من خلال هذه الاستهدافات لدفع السكان والنازحين نحو الجنوب، لكنه أكد أن هذا لن يحدث تحت أي ظرف. وأضاف أن عائلته لن تعيش تجربة النزوح إلى الجنوب مرة أخرى مهما كانت النتائج، مؤكدًا أن قرارهم الصمود في مدينة غزة حتى لو لم تبق فيها أي مبانٍ صالحة للسكن، واصفًا مخطط التهجير بأنه أسوأ ما يمكن أن يفكر به، وأسوأ واقع يمكن أن يعيشه أي فلسطيني.

وأشار أحمد إلى آلاف العائلات الهائمة على وجوهها، والتي لا تعرف أين ستبيت ليلتها، أو كيف ستدبر أمورها لنهاية هذا اليوم. وأضاف أن نقص الخيام شديد، فلا توجد خيام تؤوي هذه العائلات النازحة، بينما تشتد الاستهدافات على مدينة غزة، وتنتشر المباني المهددة والمميزة باللون الأحمر في كافة مناطق غرب المدينة. وأوضح أن كل هذا يحدث بهدف زرع اليأس والرعب في نفوس الغزيين، ودفعهم لقبول التهجير من مدينة غزة، وربما بعدها خارج كل القطاع.
وبعد قصف برج السوسي، نشر وزير حرب الاحتلال، يسرائيل كاتس، مقطع فيديو للحظة القصف، معلقًا عليه بـ"مستمرون"، في إشارة لمواصلة تدمير الأبراج والأبنية السكنية في مدينة غزة.

وتظهر موجة الاستهدافات المتصاعدة للأبراج السكنية والمباني المأهولة ومناطق الخيام الكثيفة أنها جزء من مخطط إسرائيلي لتفريغ مدينة غزة من سكانها. فقد كشفت تقارير إسرائيلية أن الأعداد التي نزحت بالفعل من شمال مدينة غزة إلى الجنوب – رغم أنها بعشرات الآلاف – لم تكن كافية في نظر جيش الاحتلال والمستوى السياسي لحكومة نتنياهو. لذلك صعّد الاحتلال من عمليات التدمير، مستخدمًا القصف الجوي والتفجيرات عبر الروبوتات المتفجرة، في محاولة لإجبار من تبقى من السكان على مغادرة المدينة قسرًا.
وبالتزامن مع موجة الاستهدافات للأبراج السكنية وتجمعات الخيام والنازحين، أعلن جيش الاحتلال عن منطقة "إنسانية" جديدة تشمل كامل منطقة المواصي وأجزاء غربية من مدينة خان يونس وأجزاء من مواصي رفح. غير أن هذا الإعلان سرعان ما كذبه الاحتلال نفسه على أرض الواقع، فقد شهدت المنطقة بعد دقائق من الإعلان عدة مجازر استهدفت النازحين الذين عادوا إليها، بما يفند أي مصداقية لفكرة المنطقة الإنسانية. ويكشف هذا المشهد أن الإعلان لم يكن سوى أداة دعائية تهدف لإجبار النازحين على النزوح جنوبًا، دون توفير أي حماية حقيقية أو مناطق آمنة كما زعم الاحتلال.