في بيتٍ غزّي بسيط تهتز جدرانه تحت وقع القصف، يتردّد صوت آخر يعلو على الرعب؛ صوت الجدة رويدا أبو عرمانة (52 عامًا) وهي تحتضن أحفادها السبعة، تحاول أن تبني لهم جدارًا من الطمأنينة أقوى من الانفجارات. تقول: "حين يرتجفون في حضني ولا أملك لهم أمانًا، أفتح لهم قلبي وصوتي. أجمعهم حولي وأبدأ الحكاية: الحرب مثل غيمة سوداء، لكنها تمضي… ثم تشرق الشمس من جديد".
الحكايات والأغاني تحوّلت عند هذه الجدة إلى درع ناعم في وجه الخوف، فهي تروي للأطفال قصة الأرنب الصغير الذي كان يخشى الظلام والأصوات العالية، لكنه اكتشف أن في قلبه نورًا يقوده حتى في غياب القمر.
حتى في أصعب أيام الحرب، تؤمن الجدّات أن هذه اللحظات ستبقى ذكرى دافئة في وجدان الأطفال
وحين يشتد القصف، ترفع صوتها بالغناء: "ناموا يا عيوني ناموا، والطيور بتغني سلامو…" عندها يشعر الأطفال أن صوت جدتهم هو السقف الذي يحميهم من كل شيء.
لكن خلف هذا الحنان تختبئ جراح النزوح المتكرر، إذ تقول رويدا: "خرجنا أحيانًا بلا ملابس ولا حاجيات، فقط نبحث عن مأوى مؤقت. الكهرباء غابت، الماء شحّ، الدواء صار حلمًا، وحتى الخبز كثيرًا ما كنا نحصل عليه بصعوبة. ومع كل نزوح كان الخوف يتضاعف، لكنني كنت أحرص أن أبقى واقفة كجدار لا ينهار أمام أحفادي."
في ظل انقطاع الكهرباء وغياب الإنترنت والألعاب منذ بداية الحرب في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، صارت جلسات الحكايات الملاذ الوحيد للأطفال. الأغاني تحوّلت إلى موسيقى البيت، والحضن إلى ملاذ دافئ، والدفء العائلي يعوّض ما سلبته الحرب من أمان وفرح. تضيف الجدة: "دوري أن أكون الحلقة التي تمنع الخيط من الانقطاع، أن أغرس فيهم جذورًا عميقة رغم اهتزاز العالم من حولهم".
ورغم قسوة التجربة، تؤمن رويدا أن هذه اللحظات ستبقى أجمل ما يحمله الأطفال في ذاكرتهم. "عندما يكبرون، لن يتذكروا فقط أصوات القصف والدمار، بل سيستحضرون الحضن الدافئ وصوتًا هادئًا يحكي ويغني في قلب العتمة. سيتعلمون أن الحكاية والتراث أقوى من الحرب، وأن الحب أقوى من الخوف".
أما الجدة غدير خويطر (45 عامًا) فتعيش تجربة مشابهة في بيتٍ مستأجر يتسلل إليه القلق مع كل اهتزاز جدرانه. تجلس مع حفيدَيها لتصنع لهما ملاذًا صغيرًا بالحكاية والأغنية. تقول بابتسامة حذرة: "وقت ما بزيد القصف وبشوف الخوف بعيونهم، ما بكون قدامي غير صوتي. بقعدهم حوالَيَّ وببلّش أحكيلهم وأغنيلهم تراث زمان. بحاول ألهيهم بالكلمة واللحن عن صوت الانفجارات".
وتضيف: "أكتر شي بطلبوا مني أغنية ’طلعت يا محلا نورها’، يمكن عشان فيها فرحة وبتُهدي أعصابهم. وبرضو بحبوا قصة جحا وحماره، لأنها بتضحكهم وبتنساهم الجو اللي عايشينه".
وعندما يشتد القصف، تدخل غدير الأطفال في عالم من الخيال: "بصير أعمل حركات وضحكات، ولما ينشغلوا بتفاصيل القصة، ما بيضلّهم مركزين عالصوت برا".
لكن خلف الضحكات تخفي غدير وجع النزوح المتكرر، فقد صمدت عائلتها طويلًا في الشمال، حتى بعد أن أجبرتهم التهديدات والجوع على المغادرة مرارًا. تقول بأسى: "القهر مش بس من القصف، القهر إنك تضلّك نازح، ما في مكان ثابت ولا أمان لأولادك".
وتشرح: "من أول الحرب ما عنا كهرباء، وبنقعد على ضوّ كشاف صغير في المساء. بصير بحكي قصص للصغار ويتخيلوا الشخصيات ويحسوا إنهم عايشين معاها، وكأنها بتعوضهم عن التلفاز والألعاب اللي فقدوها".
ترى غدير أن هذه اللحظات ليست مجرد تسلية، بل رسالة وجذور هوية: "الحكايات اللي ورثناها من جدودنا بتعلّم أحفادي إنهم جزء من أرض وتاريخ."
ورغم قسوة الحرب، تؤمن أن هذه الحكايات ستبقى ذكرى دافئة: "يمكن يكبروا ويقولوا: كنا نخاف، لكن ستّي كانت تخلي الليل دفا وكلمة حلوة… وهاي الذكريات صارت قوتهم".
حتى في أصعب أيام الحرب، تؤمن الجدّات أن هذه اللحظات ستبقى ذكرى دافئة في وجدان الأطفال، فبينما يتوارى صوت المدافع، يعلو صوت الحكاية والأغنية، ليُعلّم الصغار أن التراث والحب قد لا يوقفان القنابل، لكنهما قادران على أن يُوقفا الخوف.