بيسان

كتب وأثاث ولوحات فنية وقودًا للنار لمواجهة المجاعة وأزمة غاز الطهي في غزة

المصدر تقارير
كتب وأثاث ولوحات فنية وقودًا للنار لمواجهة المجاعة وأزمة غاز الطهي في غزة
أحلام حماد

أحلام حماد

صحافية فلسطينية

يقلب محمد عدوان بكتاب "علم النفس التربوي" بين يديه، وبحزن شديد يمزق صفحاته ويلقي بها وقودًا لنار يشعلها في موقد بدائي وسط شقته السكنية المدمرة جزئيًا في حي النصر شمال مدينة غزة.

وفي ظل أزمة غاز طهي حادة، وجد عدوان نفسه مجبرًا على هذا الخيار الصعب، بحسب وصفه، ويقول لـ"الترا فلسطين"، إن "هذه ليست مجرد صفحات من كتاب، إنها ذكريات وحياة، نضعها بأيدينا للنيران لتلتهمها كما تلتهم الحرب أعمارنا ونفوسنا".

وظل عدوان (48 عامًا) يحتفظ بمجموعة كبيرة من كتبه التي جلبها معه من مصر، بعدما أنهى دراسة الماجستير في التربية من معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية في العام 2013.

ومنذ 2 آذار/مارس الماضي، شددت دولة الاحتلال الإسرائيلي حصارها على القطاع وأغلقت المعابر، ومنعت إدخال الإمدادات الإنسانية والطبية، بما في ذلك الوقود وغاز الطهي، الأمر الذي تسبب في زيادة معاناة الغزيين وجعل حياتهم أكثر تعقيدًا.

عندما انتشرت مقاطع فيديو لطه أبو غالي وهو يحرق لوحاته الفنية، يقول إنه تلقى عروضًا من الخارج لشرائها، و"لكن كيف يمكن إخراج اللوحات من غزة المحاصرة، والمرضى فيها يموتون هنا وهم بانتظار فرصتهم للسفر والعلاج بالخارج؟"

معاناة لا تنتهي

عدوان هو صانع محتوى فلسطيني له آلاف المتابعين على منصات التواصل الاجتماعي، ويقول إن "الحرب ليست قتلًا بالصواريخ والقنابل، وهناك حروب كثيرة تمس تفاصيل حياتنا اليومية، فنحن هنا في غزة نرى الحرب ونعيشها لحظة بلحظة".

وأضاف، "نعيش الحرب في طوابير الحصول على المياه، وفي توفير لقمة العيش، وفي البحث عن أبسط أنواع الأدوية، وعندما يتوفر لدينا ما نطبخه نعاني من أجل إشعال النار، حيث غاز الطهي غير متوفر تمامًا، وأسعار الخشب والحطب باهظة جدًا، والكهرباء مقطوعة منذ اليوم الأول للحرب".

وبسبب ذلك اضطر عدوان والأغلبية من زهاء مليونين و200 ألف نسمة في القطاع الصغير والمحاصر إلى حرق مقتنياتهم الثمينة، ماديًا ومعنويًا، في محاولة قاسية للبقاء على قيد الحياة.

وضاقت خيارات الغزيين، ولم يجدوا أمامهم سوى تحطيم أثاث منازلهم وتمزيق كتبهم وحتى لوحاتهم الفنية، وتقديمها بأيديهم وقودًا للنار لتلتهمها من أجل إعداد وجبة طعام لهم ولأطفالهم.

كان لدى عدوان مكتبة تضم مئات الكتب، ولوحات فنية للزينة معلقة على الجدران، وأخرى من رسم ابنته، والكثير من الألعاب والملابس، باتت رمادًا، ولم يبق منها سوى القليل يضعه إلى جانب موقد النار، ويقول: "إذا طالت الأزمة لا أعلم ماذا سأحرق أيضًا".

طهي على نار الذكريات

في الأسبوع الأول لاندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة عقب السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، أجبر عدوان وأسرته (7 أفراد) على هجرة منزله والنزوح نحو جنوب القطاع، أسوة بالأغلبية من سكان مدينة غزة وشمال القطاع، وعاد إليه إثر اتفاق وقف إطلاق النار في 19 كانون الثاني/يناير الماضي.

"لم يعد هناك شيء نخشى عليه أكثر من حياتنا"، يقول عدوان ويتملكه القلق من الاضطرار إلى النزوح مجددًا، على وقع مخططات إسرائيلية باجتياح مدينة غزة وتدميرها.

ويقول: "منازلنا وكل ما نملك مهددة بالتدمير، وكلما حزنت على كتاب أو لوحة أو قطعة من أثاث المنزل وأنا أهم بإلقائها بالنار، أواسي نفسي بأنها لو بقيت بالبيت قد تتعرض للتدمير بصاروخ أو بقذيفة أو تحت جنازير الدبابات والجرافات".

عدوان يقيم في شقته السكنية برفقة نجله البكر حمزة (18 عامًا)، فيما زوجته وبقية أطفاله في مصر، سافروا قبل الاجتياح الإسرائيلي لمدينة رفح جنوب القطاع، في رحلة علاج لزوجته المصابة بسرطان الثدي.

وقد اجتمعت على هذا الرجل الكثير من الهموم والأحزان، ويقول إنه يحرق قطعة من قلبه وحياته وذكرياته مع كل قطعة من ملابس أو لوحة فنية أو كتابا يلقيه في النار، وتدهمه ذكرياته مع أسرته، ويقول إن "لكل زاوية في المنزل ولكل ركن فيه قصة وحكاية… بيوتنا ليست مجرد حجارة أو أثاث أصم، إنها حياة طويلة وشقاء السنين".

الفن وقودًا للنار

وبعد شهور طويلة من الحرب تنقل بها الفنان التشكيلي الفلسطيني طه أبو غالي بلوحاته التي يصفها بأنها "الكنز والإرث"، لم يجد من خيار أمامه سوى تقديمها وقودًا للنار من أجل إطعام أسرته وأطفاله.

أبو غالي فنان خمسيني نازح في خيمة بمنطقة المواصي غرب مدينة خانيونس، ويقول لـ"الترا فلسطين": إن "الفن واللوحات والألوان في زمن الحرب والموت والدمار هو ترف، فهنا في غزة الأولوية للطعام والنجاة بالحياة".

وفي ظل حياة بائسة وعدم توفر الدخل لمجابهة الغلاء الفاحش في الأسعار، اضطر أبو غالي لحرق نحو 30 لوحة فنية، بعضها يعود رسمها لأكثر من 20 عامًا، ويتساءل بمرارة: "كنت أحافظ على هذه اللوحات كطفل من أطفالي، وتنقلت بها في رحلة النزوح المريرة، ولكن ماذا يمكنني أن أفعل وأنا أجد أطفالي يتضورون جوعًا؟".

وأدت أزمة عدم توفر غاز الطهي إلى ارتفاع غير مسبوق على أسعار الحطب والخشب المتوفر بكميات قليلة في الأسواق، وبحسب أبو غالي، فإن أقل سعر للكيلو الواحد منه يقدر بنحو 9 شيكل، وهي أسعار لا تقوى عليها الأغلبية من الغزيين الذين فتكت بهم الحرب واستنزفت أموالهم ومدخراتهم.

وعندما انتشرت مقاطع فيديو لأبو غالي وهو يحرق لوحاته الفنية، يقول إنه تلقى عروضًا من الخارج لشرائها، و"لكن كيف يمكن إخراج اللوحات من غزة المحاصرة، والمرضى فيها يموتون هنا وهم بانتظار فرصتهم للسفر والعلاج بالخارج؟".

ورغم حرقته الشديدة على لوحاته التي باتت رمادًا ووقودًا للنار، فإن الفنان أبو غالي يحاول التخفيف من وقع خسارته الفنية بمقارنتها بخسارة الدم والأرواح، ويقول: "كل يوم يمر على هذه الحرب المجنونة يحرق معها المزيد والمزيد من حياتنا، ويخطف أرواحنا، وخاصة أطفالنا وشبابنا… لا شيء أغلى من أرواح جيل المستقبل".

كتب وأثاث ولوحات فنية وقودًا للنار لمواجهة المجاعة وأزمة غاز الطهي في غزة

أوضاع كارثية

وخاطر محمد حماد بنفسه للوصول إلى منزله في منطقة حمراء تشملها أوامر الإخلاء الإسرائيلية في مدينة خانيونس جنوب القطاع، من أجل الحصول على بعض الخشب، لإعداد الطعام لأسرته.

منذ مطلع حزيران/يونيو الماضي اضطر حماد وزوجته وطفليه للنزوح من منطقة "عمارة جاسر" القريبة من مجمع ناصر الطبي، بعدما شملتها أوامر الإخلاء الإسرائيلية الواسعة التي طاولت أغلبية مناطق وأحياء محافظة خان يونس الأكبر من حيث المساحة من بين محافظات القطاع والثانية من حيث التعداد السكاني.

يقيم حماد وأسرته في خيمة بمنطقة المواصي غرب المدينة، ويقول لـ"الترا فلسطين": "عندما نزحنا حطمت بعض أثاث منزلنا كوقود للنار والطهي، وقد طالت مدة النزوح، واضطررت للتسلل للبيت وتحطيم قطع أخرى من أثاث غرفة نومي". ويصف حماد الأوضاع في غزة بأنها كارثية، وهناك من اضطر إلى حرق ملابسه وملابس أطفاله من أجل الطهي وإعداد الطعام.

وبسبب أزمة غاز الطهي، وعدم توفر الحطب والخشب بكميات كافية وبأسعار مناسبة، توقفت المخابز وأغلبية التكايا الخيرية عن العمل، وسط تفاقم المجاعة وارتفاع خطير في أعداد حالات سوء التغذية، وبات الإعلان عن سقوط ضحايا للتجويع ولقمة العيش خبرًا يوميًا.