في قلب مخيم النزوح، حيث تمتزج رائحة التراب بالموت البطيء، تبدأ أم محمد صباحها كما تبدأ معركة. لا تحمل سلاحًا في يدها، فقط كيسًا فارغًا وقلب أمّ مثقلًا بالجوع. تبتعد عن طوابير المساعدات التي تسميها "مصيدة الاحتلال"، لا لأنها تتكاسل، بل لأنها اعتادت أن تلاحق الفتات.
تقول بصوت يختلط بالرضا الموجع: "بلمّ من على الأرض أي شي من بقاياهم، عدس، معكرونة، حمص حب، وأقعد مع أولادي نفرزهم لما أرجع". قبل خروجها تترك بناتها الصغيرات في الخيمة وتوصيهن: "ما تطلعوش، خليكم جوا، ديروا بالكم على أختكم". تمشي يوميًا وخوفها بين يديها، تؤكد: "بروح وأنا حاطة إيدي على قلبي". هي لا تغامر، بل تخوض معركة خاسرة ضد الجوع، ضد بطون صغيرة لا تفهم معنى "ما في أكل". أحيانًا تعود بشيء، وأحيانًا بيدين فارغتين، لكنها دائمًا تعود، وتواصل حربها الصامتة التي لا تحتاج فيها الأم إلى شجاعة، فالجوع وحده يكفي ليمنحها القدرة على اقتحام الموت ولو على ركبتيها.
الماء الذي كان حقًا صار سلعة نادرة، الطحين مؤجل، الحليب مقطوع، والخضار حلم بعيد
في خيمة أخرى تجلس إسراء العرعير، أم لطفلة أرهقها الجوع. بملامحها المنهكة تتحدث بصوت مبحوح عن يومياتها: "الأكل اللي اليوم بناكلو مش أكل يليق بالحياة، خاصة بالأطفال. أغلب الوقت فلافل، وأحيانًا ما في خبز. الفلافل صار غالي، والحبة بشيكل. بنتي كانت ناصحة وحلوة، بس اليوم ضعفت واسودّت بالخيم. الوضع صعب، وما في أكل، ودائمًا مريضة من تلوث المياه والطعام". ثم تكمل بانكسار: "أصعب موقف لما تصحى بنتي من النوم وتقول: يا ماما جعانة. زهقت من الكلمة. حتى المي بنشتريها وما بتكفينا. مرات بنفطر مي، ونتغدى مي، ونتعشى مي. بنتي نامت أربع أيام من الجوع، شربتها مي وقلت لها الصبح بناكل، بس من وين؟ بنتك تقولك ماما جعانة وإنتي ما عندك شي تطعميها.. هذا أكثر شي بيوجع".
الجوع في غزة لا يأتي فقط من ندرة الطعام، بل من حصار يغلق كل أبواب الحياة. الماء الذي كان حقًا صار سلعة نادرة، الطحين مؤجل، الحليب مقطوع، والخضار حلم بعيد. في ظل الحصار، تحوّل العيش إلى مراوغة يومية بين معابر مغلقة وأسعار متوحشة وانتظار إغاثة لا تأتي في موعدها.
في إحدى المدارس المؤقتة شمال غزة، تحاول المعلمة رانيا غطاس أن تُبقي درس اللغة العربية حيًا رغم أن الجوع يسرق انتباه الأطفال. تقول: "الطلاب فكرهم مش بالتعليم، فكرهم متى يروحوا ياكلوا. شفت طفل ماسك خبزة ناشفة ومبسوط إنه لقاها، وطفل فقد وعيه لأنه ما أكل من مبارح. بيحكولي دايمًا بدنا ناكل، بدنا نشرب". وتضيف بابتسامة حزينة: "حكيتلهم عن الدجاج والجناحين، وعيونهم فرحت كأنهم شافوا الدنيا". أما حسين، طفل الستة أعوام، فجلس يرسم على دفتره المهترئ أقراص فلافل وخبزًا، قبل أن يقول بخجل: "نفسي يكون عنا خبز ونأكل. ما عنا طحين. نفسي آكل دجاج وجناحين".
لكن الفقد لا يقف عند حدود الأمنيات. في خانيونس، جلست أم عشرينية تحمل صورة طفلتها زينب التي لم تكمل عامها الأول. بصوت مبحوح روت: "بدأت الأعراض في عمر شهر ونصف، نزلة معوية وجرثومة في الدم. مكثت في المستشفى 3 أشهر، وما كان في علاج ولا حليب مناسب. الأطباء حولوها كحالة عاجلة، لكنها توفيت قبل خروجها".
في الميدان الطبي، يصف الدكتور عدي دبور، مدير الفريق الطبي المتنقل في جمعية الإغاثة الطبية، الوضع بقلق بالغ. يقول إن منظومة الأمن الغذائي للأطفال انهارت بالكامل: "الحليب غير متوفر، والفيتامينات والمكملات والبروتينات الأساسية غائبة. نسجل وفيات يومية بسبب سوء التغذية ونقص الأدوية، خصوصًا لدى الأطفال المصابين بالسكري. لدينا حالة من كل سبع أطفال تعاني من سوء تغذية حاد، وحالة من كل طفلين بسوء تغذية مزمن". ويضيف أن أكثر من 50 ألف رضيع بلا حليب، وأن نصيب الفرد من المياه لا يتجاوز 5 لترات يوميًا بدلًا من 120 لترًا، مما يفاقم الأمراض المعوية والالتهابات.
هذه الصورة القاتمة يصدّقها تحذير دولي. المتحدث باسم منظمة اليونيسف، سليم عويس، قال إن "الوضع خطير للغاية، والإمدادات العلاجية قد تنفد بحلول منتصف آب. ما تبقى في المرافق الطبية لا يكفي سوى 3000 حالة، بينما هناك أكثر من 3200 طفل مهددون بالموت المباشر". وأوضح أن المنظمة عالجت أكثر من 5000 طفل بسوء تغذية في أسبوعين فقط.
في غزة، لم يعد الحصار سياسة عابرة، بل منظومة تجويع ممنهجة. بين أمّ تبحث عن الفتات وطفل يرسم جناحين على دفتره المهترئ، تختصر جملة واحدة مأساة جماعية: "يا ماما جعانة".