في زوايا البيوت التي أنهكها الحصار، حيث تعلو أصوات الأطفال جوعًا أكثر من صوت القصف، تتحول نار الحطب الباهظة إلى شمعة حياةٍ لأمهاتٍ يحاولنَ بكل ما أوتينَ من صبرٍ أن يدفئنَ الأجسادَ الصغيرةَ ويعيدنَ لقمةً تُسكتُ نواحَ البطون. هنا في غزة، حيث تحوّل غاز الطهي إلى حلمٍ بعيدٍ، صار الحطبُ ذهبًا أسودَ يثقل كاهلَ العائلات، بينما تحاول الأيادي المتشققة إشعالَ النارِ بكل ما تجده، حتى لو كان حذاءً باليًا أو قطعة قماش، في مشهدٍ يؤرخ لمعاناةٍ لا تكتبها الأرقام وحدها، بل تُحفر في ذاكرةِ شعبٍ يرفض أن يموتَ بصمتٍ.
يشهد قطاع غزة أزمة طاقة خانقة مع استمرار منع سلطات الاحتلال الإسرائيلي إدخال غاز الطهي بكميات تكفي احتياجات السكان، حيث لا تتجاوز الكميات المسموح بها 5% من الاحتياج اليومي الذي يتراوح بين 300 و400 طنٍ، خاصة مع زيادة الاستهلاك في فصل الشتاء.
تحوّل غاز الطهي إلى حلمٍ بعيدٍ، صار الحطبُ ذهبًا أسودَ يثقل كاهلَ العائلات، بينما تحاول الأيادي المتشققة إشعالَ النارِ بكل ما تجده
وقد اضطرّ السكان نتيجةَ ذلك إلى الاعتمادِ الكامل على الحطب كبديلٍ رئيسي للطهي والتدفئة، ما أدى إلى ارتفاعٍ جنونيٍ في أسعاره بلغت نسبته نحو 1500%، في ظل معاناة الغالبية العظمى من السكان من انعدام مصادر الدخل وعدم توافر أي بدائلٍ أخرى للطاقة.
ولمواجهةِ هذه الأزمة، يلجأ الكثير من الأهالي إلى حرقِ المواد البلاستيكية والأحذية القديمة والأقمشة كمصدرٍ بدائيٍ للوقود أو الحطب، رغم المخاطر الصحية والبيئية الخطيرة التي تترتبُ على ذلك. وتكشف هذه الممارسات عن عمق المعاناة اليومية التي يعيشها سكانُ القطاع تحت وطأةِ الحصار والدمار، حيث يصارع الآلاف من أجل تأمين أبسط مقومات الحياة في ظل ظروفٍ بالغة القسوة تختزل مأساةً إنسانية مستمرة منذ أكثر من عشرين شهرًا.
إلياس.. طفل يبحث عن نار تحفظ الحياة
بين أكوام الركام والبيوت المدمرة، يتحرك إلياس عابد (14 عامًا) بحذرٍ، حاملًا على ظهره كيسًا ممزقًا يملؤه بكل ما يمكن أن يشعل نارًا. إنها رحلته اليومية التي بدأت قبل خمسة أشهر، عندما تحولَ البحثُ عن بدائلَ للغاز والحطب إلى معركةِ بقاءٍ لعائلته.
يقولُ الصبيّ بنظرةٍ أكبر من عمره: "نحن لا نملك مصدر دخل. والدي كان سائقًا قبل الحرب، اشترى سيارةً بالتقسيط ليعيلنا، لكن الحرب دمرت كل شيء". يغادر خيمته مع شروق الشمس، يتفقدُ الأسواق بحثًا عن كراتينَ فارغة، يزورُ البيوتِ المدمرة مرارًا، ينقب تحت الركام باحثًا عن قطعِ بلاستيكٍ أو خشب.
"هل أوفق دائمًا؟ بالطبع لا"، يجيب بمرارةٍ، "الكثيرون مثلّي يبحثون عن نفس الشيء". يحكي كيف تحولت هذه المهمة إلى سباقٍ محمومٍ بين الأطفال، حيث تندلع المشاجرات أحيانًا على قطعةِ خشبٍ أو كيسِ بلاستيك.
لكن الخطر الأكبر يكمن في زحفهم تحت أنقاضِ المنازلِ المدمرة. يتذكر بحسرةٍ حادثةَ يونيو الماضي عندما سقط جزءٌ من جدارٍ على رفاقه أثناء البحث، مما استدعى نقلهم إلى مستشفى العودة. "هذا العمل صعب وخطير"، يقول إلياس بحرقةٍ، "لكننا مضطرون. إن لم نفعل، لن نجد ما نطهو به الطعام، ولن نأكل".
بلاستيك غزة.. من قمامة منسية إلى ذهبٍ أسودٍ
على بسطته المتواضعة في شمال مدينة غزة، يتكدس ما لم يكن ليخطرَ على بال أحدٍ أن يتحول إلى سلعةٍ ثمينةٍ: قطعٌ بلاستيكيةٌ متنوعةٌ، بقايا خزانات مياهٍ محطمةٍ، خراطيم ممزقةٍ، وقطع من المشمع البلاستيكي. هنا يعرض الشاب أحمد خليل (23 عامًا) سلعته الخاصة التي يجني منها رزقَه، في زمنٍ تحولت فيه أبسط مواد الحياة إلى كنوزٍ نادرة.
"أعلم أن الحرب لا خيرَ فيها، لكنها فتحت لي باب رزقٍ لم أكن أتخيله يومًا"، يقول أحمد وهو ينهمك في عدّ النقود التي كسبها من بيع الكيلوغرام الواحد من البلاستيك بـ 15 شيكلًا. ويوضح: "من كان يتخيل أننا سنبيع البلاستيك من أجل إشعال النار والطهي؟ كنا فيما مضى نرمي هذه الأشياء في القمامة، أما اليوم فكل جرامٍ منها يساوي نقودًا".
وراء هذه "السلعة" غير التقليدية قصة بحثٍ ومخاطرة. يشرح أحمد أنه لا يشتري المواد البلاستيكية، بل يتحرّك هو وإخوته ضمن فرق بحثٍ تجوب الشوارع والمناطقِ المدمرة بحثًا عن أي شيءٍ قابلٍ للاشتعال. قائلًا: "ننقب تحت الأنقاض، نفحص البيوت المهدمة، ونتحرى في الشوارع الجانبية. كل قطعة بلاستيك نعثر عليها قد تنقذ عائلةً من الجوع أو البرد".
وعن سعرها المرتفع، يوضح أحمد: "الندرةُ والمخاطرةُ ليست مجانية. البحث عن البلاستيك في ظل القصف المستمر والأنقاض غير المستقرة مهنةٌ محفوفةٌ بالمخاطر. الحرب لم تترك لنا مجالًا إلا أن نبتكر ونطوّع أي شيءٍ ليصلَحَ للبيع".
هذه الظاهرة لم تعد مقصورةً على أحمد، ففي شوارع غزة تحولت تجارة "الوقود البلاستيكي" إلى سوقٍ موازيةٍ تعكس قدرة السكان على الابتكار في مواجهة الحصار، لكنها أيضًا تكشف مأساةً إنسانيةً عميقةً حيث أصبح الحصول على وقود للطهي معركةً يوميةً من معارك البقاء.
منال سلامة.. نار الأحذية تطبخ العدس وتخنق الصدر
أمام فرنٍ طينيٍ بدائي، تنحني منال سلامة وهي تحاول إشعالَ النار باستخدام أحذيةٍ قديمةٍ وقطعٍ من الكرتون، في مشهدٍ يختزل مأساة يوميةً تعيشها آلاف الأسر في قطاع غزة. رائحة البلاستيك المحترق تخنق الأنفاس، لكنها تتابع عملها بإصرار: "هذه الأحذية أرخص من الحطب وتدوم أكثر"، تقول بينما يمتلئ الهواء بأدخنةٍ سامة.
انعدامُ الدخل دفع زوجَ منال لحرقِ كل ما لم يعد صالحًا للاستخدام في المنزل. "حرقنا الملابس القديمة، الأحذية البالية، وحتى قطع الأثاث التي دمرها القصف"، تضيف بمرارةٍ. "هل تتخيل أننا نحرق أثاث منزلنا لنطبخ طعامًا؟ هذه معيشتنا منذ ستة أشهر".
كانت العائلة تعتمد على الاحتطاب من المزارع القريبة في مخيم البريج شرق القطاع، لكنها منعت زوجها وأبناءها من الذهاب بعد أن استهدف جنود الاحتلال مجموعةً من المحتطبين. "يقتلونهم للتسلية، لا لأنهم يشكلون تهديدًا"، تقول بصوتٍ مكتوم.
المعاناة لا تقتصر على البحث عن الوقود. فمنال تعاني من أزمةِ تنفّسٍ حادةٍ وحرقانٍ مستمرٍ في العين بسبب الدخان الكثيف. "أتعرض لهذه السموم مرتين يوميًا، لكنني لا أستطيع التوقف. من سيطبخ للصغار إن توقفت؟".
هذه ليست قصة منال وحدها، بل هي قصة أمهات غزة اللواتي يحرقن ذاكراتِهنَّ قطعةً قطعةً لإشعال نارٍ تُبقيهنَّ على الحياة. يَقاومنَ الاختناق ليقدّمْنَ لأطفالهنَّ وجبةَ طعامٍ، في أقسى مشاهدِ الصمود الإنساني أمام حصارٍ يخنق الأنفاس والحياة.
الوقود البديل يخلق سوقًا سوداء تثقل الأسر
وأشار الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر إلى تحولات جذرية في المشهد الاقتصادي بقطاع غزة، حيث فرضت الحرب واقعًا جديدًا تمثل بظهور مهنَ لم تكن موجودةً سابقًا، أبرزها تجارة الوقود البديل بمختلف أشكاله.
وقال أبو قمر في حديثه إن "الاحتطاب أصبح مهنةً رئيسيةً، ثم توسعت لتشمل بيعَ الكرتون والأثاث المكسّر والبلاستيك وحتى الأحذية البالية، التي تشكل مجتمعةً رافدًا مهمًا للوقود البديل في ظل انعدام غاز الطهي منذ ستة أشهر".
وأضاف أن أسعار هذه المواد شهدت ارتفاعاتٍ قياسيةً، حيث يصل سعرُ الكيلوغرام من البلاستيك (خراطيم المياه والخزانات) إلى 15–20 شيكلًا، بينما يقفز سعرُ كيلو الحطب إلى نحو 10 شواكل مقارنةً بنصف شيكلٍ قبل الحرب.
وبيّن أبو قمر أن "متوسط استهلاك العائلة الفلسطينية من الوقود البديل يتجاوز ثلاثة كيلوغرامات يوميًا، مما يشكل عبئًا ماليًا ثقيلاً في ظل انعدام الدخل للغالبية العظمى من السكان".
وعزا الخبير الاقتصادي هذه الأزمة إلى "امتناع الاحتلال الإسرائيلي عن إدخال الوقود والغاز منذ الأول من آذار/مارس 2025، بعد خرق اتفاق التهدئة وإغلاق كافة معابر قطاع غزة".
وشدد أبو قمر على أن "إدخال الوقود والغاز ولو بشكلٍ نسبيٍ سيساهم في تخفيف الأزمة ويؤثر إيجابًا على أسعار المواد البديلة"، كاشفًا أن "احتياجات القطاع الشهرية تصل إلى 12 مليون لترٍ من الوقود، و300–400 طنٍ يوميًا من غاز الطهي".
بين أيادي الأطفال التي تنقب في الركام بحثًا عن الخشب، والنساء اللواتي يطبخن على نار البلاستيك والأحذية القديمة، والشباب الذين يحولون القمامة إلى تجارة، تتجلّى مأساةُ غزة اليومية. مأساةٌ تحولت فيها أبسط ضرورياتِ الحياة إلى كفاحٍ يوميٍّ للبقاء، حيث أصبح الدخانُ الأسودُ مرادفًا لرغيفِ الخبز. ومع ذلك، يرفضون أن تنطفئ حياتهم. في غزة، حتى الدخان السام صار دليلًا على صمود شعبٍ يطبخُ من رماده حياةً.