أعلنت الأمم المتحدة اليوم الجمعة، المجاعة في غزة، وحددت لجنة مراجعة المجاعة أن المجاعة (المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي) تحدث حاليًا في محافظة غزة. علاوة على ذلك، تتوقع اللجنة تجاوز عتبات المجاعة في محافظتي دير البلح وخان يونس خلال الأسابيع المقبلة. ساعات قليلة بعد صدور المراجعة، قال مكتب رئيس حكومة الاحتلال، إن "التقرير هو كذبة مطلقة. إسرائيل ليس لديها سياسة تجويع، بل لديها سياسة منع الجوع".
البيانات الإسرائيلية كلها، لن تستطيع محو الواقع، أو إعادة اختلاقه، لا يزال صدى بكاء الأطفال الجوعى يتردّد في مخيمات النزوح، رغم كل ضجيج الحملة الإعلامية التي يقودها الاحتلال في محاولةٍ لإقناع العالم بأن المجاعة في غزة قد انتهت. المجاعة التي لا تزال تحصد كل يوم أرواحًا قتلتهم إسرائيل جوعًا في الخيام بلا رصاص أو دماء؛ وصلت حصيلتها إلى 273 شهيدًا، بينهم 112 طفلًا.
الطبيب صهيب حمد وصف الوضع الصحي لـ"الترا فلسطين" بأنه "أكثر من كارثي"، مؤكّدًا أن المستشفيات تستقبل يوميًا مئات الحالات من الجوعى الذين أنهكهم نقص الطعام
دعاية كاذبة
لا يكتفي الاحتلال بالقتل البطيء للجياع؛ فمن شمال القطاع في زيكيم لا تتوقف دماء المجوعين الطالبين للطعام برصاص الاحتلال، إلى وسطه حيث مركز المساعدات في نيتساريم، والمجازر اليومية بحق الجياع في كوسيفيم وموراج ومراكز الطينة والشاكوش. يعيش الغزيون معركة وجود دامية، يطاردهم فيها الجوع وطلقات القناصة في كل لحظة، فتحوّل حياتهم إلى رحلة يومية محفوفة بالموت من أجل لقمة خبز.
ومنذ ثلاثة أسابيع بدأ الاحتلال حملة دعائية بعد السماح بما عُرف بـ"الإنزال الجوي"، التي وصفها أهالي القطاع بـ"مسرحيات الإذلال الجوي"، وفتح إمكانية إدخال بضائع غالية الثمن لبعض التجار، حيث حاول من خلالها الادعاء بانتهاء المجاعة. ورغم أن الأسواق في بعض مناطق القطاع تتوافر فيها بعض أصناف المنتجات الغذائية، إلا أن الأسعار تضاعفت مرات عديدة مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب، حتى باتت بعيدة تمامًا عن متناول الغالبية العظمى من السكان.
وفي ظل توقف الأعمال وفقدان مصادر الدخل، أصبح شراء الطعام رفاهية لا يملكها إلا قلةٌ من الميسورين أو العاملين في المؤسسات الدولية، فيما يظل معظم السكان محاصرين بين الجوع والفقر. ويدفع الجوع والفقر والبطالة عشراتَ أو ربما مئاتِ الآلاف من الغزيين يوميًا نحو مصائد الموت في مراكز المساعدات الأمريكية وبالقرب من مناطق دخول الشاحنات، ما يسبب يوميًا عشرات الشهداء برصاص الاحتلال.
سعيد قطش واحد من هؤلاء الذين حركهم جوع أطفالهم ليجلبوا الطعام من مصائد الموت. ويعلّل مخاطرتَه قائلًا: "إما أن أذهب إلى مصائد الموت في موراج، أو إلى مراكز المساعدات في رفح، وإلا فإن أطفالي سيموتون جوعًا أمام عيني".
سعيد، كغيره من آلاف الغزيين، يرى أن العالم صدّق كذبة انتهاء الجوع بعد فتح المعابر للتجار، متغافلًا عن أن الناس هنا منذ بداية الحرب لم يعملوا ولم يدخل إلى جيوبهم قرشٌ واحد. يضيف في حديث لـ"الترا فلسطين"، قائلًا: "التاجر يجلب البضاعة بأضعاف أسعارها الطبيعية، ولا يستطيع شراؤها إلا قلةٌ من الموظفين في المؤسسات الدولية؛ أما نحن فنموت جوعًا في الخيام بصمتٍ، أو برصاص القناصة عند أبواب مراكز المساعدات".
الطريق الوحيد أمامه هو التوجّه جنوبًا إلى المناطق الخطرة بحثًا عن شيءٍ يسد رمقَ أطفاله. لكن المأساة لا تتوقف هنا؛ إذ يؤكد أن مشاهدته لأطباء ومهندسين ومحامين وأساتذة مصطفّين في طوابير المساعدات أصبحت أمرًا مألوفًا: "حتى الطبيب أو الممرض الذي يتقاضى بالكاد 900 شيكل كل خمسين يومًا يجد نفسه عاجزًا عن شراء الطعام الغالي جدًا. وغالبًا ما تكون النقود مهترئةً لا يقبلها الباعة، فيضطر مثلي للذهاب إلى مصائد الموت ليعود بشيءٍ لعائلته".
وتابع قطش: "أقسى ما يمر به الأب هو أن يسمع بكاء أطفاله من الجوع. أعلم أنني في كل مرة أخرج فيها بحثًا عن الطعام قد لا أعود. كثيرون ذهبوا إلى مراكز المساعدات، لكنهم عادوا إلى عائلاتهم شهداء محمولين على الأكتاف، وبعضهم لم يعد أبدًا. هذا هو حالنا اليوم؛ نقايض أعمارنا بلقمة الخبز".
أما السيدة نعمة إسماعيل فتقطع مسافة طويلة كل صباح تحت الشمس الحارقة، حاملةً إناءً فارغًا، من مخيم نزوحها شرق مدينة دير البلح نحو "تكية" في قرية المصدر، علّها تعود لأطفالها الأيتام ببعض الطعام، لكنها في نهاية المطاف لا تحصل سوى على القليل، كمية بالكاد تكفي لشخص واحد، فيما ينتظر خلفها مئات الجوعى في طابور طويل.
تقول نعمة في حديث لـ"الترا فلسطين": "أخرج من الثامنة صباحًا، أنتظر لساعات طويلة، وبعد كل ذلك التعب أحصل على ما لا يشبع حتى فردًا واحدًا من عائلتي". زوجها استُشهد قبل شهرين أثناء محاولته جلب الطحين من مركز المساعدات الأميركي في محور نيتساريم، ومنذ ذلك اليوم وجدت نفسها وحيدة في مواجهة الجوع، تقاوم بكل ما تبقّى لها من قوّة لتطعم أبنائها. وتضيف: "المشرف على التكية يوزع قدرين من الطعام على قرابة ألف شخص، كيف تكفي هذه الكمية لكل هذا العدد؟".
المأساة تعمّقت أكثر حين أُغلقت بعض التكايا التي كانت تعتمد على تمويل خارجي بعد أن سرت أخبار كاذبة عن انتهاء المجاعة، إحداها كانت الأقرب إلى مكان نزوحها، ما أجبرها على قطع مسافة أطول كل يوم لإحضار وجبة بالكاد تملأ قاع الوعاء.
وتتابع: "لا نملك المال لنشتري أي شيء، مصدرنا الوحيد للطعام هو التكايا. نعيش على وجبةٍ واحدة في اليوم، وجبة الغداء، ولا تكفي، وأطفالي يمرضون باستمرار من سوء التغذية؛ جروحهم لا تلتئم بسرعة، بل تتفاقم مع الوقت، وأحيانًا تمنعهم من النوم ليلًا، حتى جمع الحطب أو جلب الماء يرهقهم ويزيد جروحهم".
لم يكتفِ الاحتلال بقنص واستهداف المجوعين في مراكز توزيع المساعدات، بل قصف أربعًا وأربعين تكية طعام وقتل عشرات العاملين فيها، واستهدف بالقصف سبعة وخمسين مركزًا لتوزيع الغذاء.
View this post on InstagramA post shared by Ultra Palestine - الترا فلسطين (@ultrapalestine)
الأمم المتحدة: المجاعة قائمة
حددت لجنة مراجعة المجاعة أن المجاعة (المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي) تحدث حاليًا في محافظة غزة. علاوة على ذلك، تتوقع اللجنة تجاوز عتبات المجاعة (المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي) في محافظتي دير البلح وخان يونس خلال الأسابيع المقبلة.
وأضاف البيان: "بما أن هذه المجاعة من صنع الإنسان بالكامل، فمن الممكن وقفها وعكس مسارها. لقد ولّى زمن الجدل والتردد، فالمجاعة حاضرة وتنتشر بسرعة. لا ينبغي أن يشك أحد في ضرورة استجابة فورية وواسعة النطاق. أي تأخير إضافي - ولو لأيام - سيؤدي إلى تفاقم غير مقبول تمامًا للوفيات المرتبطة بالمجاعة".
وأشارت إلى أنه "إذا لم يتم تنفيذ وقف إطلاق النار للسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى الجميع في قطاع غزة، وإذا لم يتم استعادة الإمدادات الغذائية الأساسية والخدمات الصحية الأساسية والتغذية والمياه والصرف الصحي على الفور، فإن الوفيات التي يمكن تجنبها سوف تزيد بشكل كبير".
أما مفوضُ عامّ الأونروا، فيليب لازاريني، فقد صرّح بأن معدلات سوء التغذية بين الأطفال في غزة تضاعفت ثلاث مرّات في أقل من ستة أشهر، مشيرًا إلى أن "طفلًا من كل ثلاثة في مدينة غزة يعاني من سوء تغذية"، وكرر حديثه عن أن مستودعات الوكالة في مصر والأردن تحتوي على 6000 شاحنة مساعدات لكنها لا تستطيع الدخول.
وأكد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن الاحتلال يجوع أكثر من 100 ألف طفل ومريض بشكل مباشر، بينهم 40 ألف رضيعٍ مصابون بسوء تغذيةٍ حاد، وحياتهم مهددة بالموت البطيء، وأن الاحتلال يواصل منع إدخال حليب الأطفال والمكمّلات الغذائية ومئات الأصناف الأساسية، ما يحوّل حياة المرضى والأطفال إلى مأساة يومية.
الطبيب صهيب حمد وصف الوضع الصحي بأنه "أكثر من كارثي"، مؤكّدًا أن المستشفيات تستقبل يوميًا مئات الحالات من الجوعى الذين أنهكهم نقص الطعام، وأن جزءًا من هؤلاء المرضى يفقدون حياتهم كل يوم، خصوصًا الأطفال الذين يُعدّون الفئة الأكثر هشاشة.
وأشار في حديث لـ"الترا فلسطين" إلى أن الأطفال وصلوا إلى مرحلة الهزال الشديد، حيث تحوّلت أجسادهم إلى "هياكل عظمية" نتيجة فقدان الدهون والعضلات، وأن المجاعة المستمرة ونقص الفيتامينات والعناصر الأساسية أدّت إلى أمراضٍ مستعصية مثل فقر الدم التغذوي، الكساح، الغشى الليلي، هشاشة العظام، مشاكل الأسنان، وتأخّر النطق والمشي. ويضيف محذّرًا: "هذه ليست أعراضًا عابرة، بل مؤشرات على جيل مهدّد بخسائر جسدية وعقلية طويلة الأمد".
كما أكد أن انقطاع الغذاء لأكثر من ستة أشهر متواصلة ألحق أضرارًا بمعظم الفئات العمرية، موضحًا أن النساء الحوامل يواجهن مضاعفات قاتلة، وكبار السن ينهار نظامهم المناعي، فيما تتحوّل أمراض بسيطة إلى أحكامٍ بالموت بسبب غياب الدواء.
📍تحت الأرقام.. المجاعة المتصاعدة
— Ultra Palestine - الترا فلسطين (@palestineultra) August 19, 2025
📌على مدار 22 يومًا دخل قطاع غزة 1,937 شاحنة مساعدات فقط من أصل الكمية المفترضة والبالغة 13,200 شاحنة مساعدات، أي أن ما دخل أقل من 15 % من الاحتياجات الفعلية. pic.twitter.com/gA4xLhuOnQ